إلّا حظّا يسيرا ، ويجوز كون من للبيان. والمعنى : أوتوا حظّا من حظوظ الكمال ، هو الكتاب الذي أوتوه.
وجملة (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) في موضوع الحال لأنّها محل التعجيب ، وذلك باعتبار ضميمة ما عطف عليها ، وهو ، قوله : (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) لأنّ ذلك هو العجيب لا أصل دعوتهم إلى كتاب الله ، وإذا جعلت (تر) قلبية فجملة يدعون في موضع المفعول الثاني وقد علمت بعده.
و (كِتابِ اللهِ) : القرآن كما في قوله : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [البقرة : ١٠١]. فهو غير الكتاب المراد في قوله : (مِنَ الْكِتابِ) كما ينبئ به تغيير الأسلوب. والمعنى : يدعون إلى اتّباع القرآن والنظر في معانيه ليحكم بينهم فيأبون. ويجوز أن يكون كتاب الله عين المراد من الكتاب ، وإنّما غير اللفظ تفنّنا وتنويها بالمدعوّ إليه ، أي يدعون إلى كتابهم ليتأملوا منه ، فيعلموا تبشيره برسول يأتي من بعد ، وتلميحه إلى صفاته.
روي ، في سبب نزول هذه الآية : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم دخل مدراس اليهود فدعاهم إلى الإسلام ، فقال له نعيم بن عمرو ، والحارث بن زيد : على أيّ دين أنت ـ قال : على ملة إبراهيم ـ قالا : فإنّ إبراهيم كان يهوديا. فقال لهما : إنّ بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها ، فأبيا ،
وقوله : (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) (ثم) عاطفة جملة (يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) على جملة (يُدْعَوْنَ) فالمعطوفة هنا في حكم المفرد فدلت (ثم) على أنّ تولّيهم مستمر في أزمان كثيرة تبعد عن زمان الدعوة ، أي أنّهم لا يرعوون فهم يتولّون ثم يتولّون ؛ لأنّ المرء قد يعرض غضبا ، أو لعظم المفاجأة بالأمر غير المترقّب ، ثم يثوب إليه رشده ، ويراجع نفسه ، فيرجع ، وقد علم أنّ تولّيهم إثر الدعوة دون تراخ حاصل بفحوى الخطاب.
فدخول (ثُمَ) للدلالة على التراخي الرتبي ؛ لأنّهم قد يتولّون إثر الدعوة ، ولكن أريد التعجيب من حالهم كيف يتولّون بعد أن أوتوا الكتاب ونقلوه ، فإذا دعوا إلى كتابهم تولّوا. والإتيان بالمضارع في قوله : يتولون للدلالة على التجدّد كقول جعفر ابن علبة الحارثي:
ولا يكشف الغمّاء إلّا ابن حرة |
|
يرى غمرات الموت ثم يزورها |