والمراد بهذا الفتون خوف موسى من عقاب فرعون وخروجه من البلد المذكور في قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) إلى قوله : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ* فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص : ١٨ ـ ٢١].
وذكر الفتون بين تعداد المنن إدماج للإعلام بأن الله لم يهمل دم القبطيّ الذي قتله موسى ، فإنه نفس معصومة الدم إذ لم يحصل ما يوجب قتله لأنّهم لم ترد إليهم دعوة إلهية حينئذ. فحين أنجى الله موسى من المؤاخذة بدمه في شرع فرعون ابتلى موسى بالخوف والغربة عتابا له على إقدامه على قتل النفس ، كما قال في الآية الأخرى : (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ* قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ) [القصص : ١٥ ـ ١٦]. وعباد الله الذين أراد بهم خيرا ورعاهم بعنايته يجعل لهم من كلّ حالة كمالا يكسبونه ، ويسمى مثل ذلك بالابتلاء ، فكان من فتون موسى بقضيّة القبطيّ أن قدر له الخروج إلى أرض مدين ليكتسب رياضة نفس وتهيئة ضمير لتحمّل المصاعب ، ويتلقّى التهذيب من صهره الرسول شعيب ـ عليهالسلام ـ. ولهذا المعنى عقب ذكر الفتون بالتفريع في قوله (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) فبين له كيف كانت عاقبة الفتون.
أو يكون الفتون مشتركا بين محمود العاقبة وضدّه مثل الابتلاء في قوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨] ، أي واختبرناك اختبارا ، والاختبار : تمثيل لحال تكليفه بأمر التبليغ بحال من يختبر ، ولهذا اختير هنا دون الفتنة.
وأهل مدين : قوم شعيب. ومدين : اسم أحد أبناء إبراهيم ـ عليهالسلام ـ سكنت ذريته في مواطن تسمى الأيكة على شاطئ البحر الأحمر جنوب عقبة أيلة ، وغلب اسم القبيلة على الأرض وصار علما للمكان فمن ثمّ أضيف إليه (أهل). وقد تقدم في سورة الأعراف.
ومعنى (جِئْتَ) حضرت لدينا ، وهو حضوره بالواد المقدّس لتلقي الوحي.
و (على) للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن ؛ جعل مجيئه في الوقت الصالح للخير بمنزلة المستعلي على ذلك الوقت المتمكن منه.
والقدر : تقدير الشيء على مقدار مناسب لما يريد المقدّر بحيث لم يكن على سبيل