ولما ذكر منّة خلق الأرض شفعها بمنّة إخراج النّبات منها بما ينزل عليها من السماء من ماء. وتلك منّة تنبئ عن خلق السماوات حيث أجرى ذكرها لقصد ذلك التذكير ، ولذا لم يقل : وصببنا الماء على الأرض ، كما في آية : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) [عبس : ٢٥ ، ٢٦]. وهذا إدماج بليغ.
والعدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلّم في قوله : (فَأَخْرَجْنا) التفات. وحسّنه هنا أنّه بعد أن حجّ المشركين بحجّة انفراده بخلق الأرض وتسخير السماء مما لا سبيل بهم إلى نكرانه ارتقى إلى صيغة المتكلّم المطاع فإن الذي خلق الأرض وسخّر السماء حقيق بأن تطيعه القوى والعناصر ، فهو يخرج النّبات من الأرض بسبب ماء السماء ، فكان تسخير النبات أثرا لتسخير أصل تكوينه من ماء السماء وتراب الأرض.
ولملاحظة هذه النكتة تكرر في القرآن مثل هذا الالتفات عند ذكر الإنبات كما في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩٩] ، وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) [فاطر : ٣٥] ، وقوله : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) [النمل : ٦٠] ومنها قوله في سورة الزخرف [١١] : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً). وقد نبّه إلى ذلك في «الكشاف» ، ولله درّه. ونظائره كثيرة في القرآن.
والأزواج : جمع زوج. وحقيقة الزوج أنه اسم لكلّ فرد من اثنين من صنف واحد. فكلّ أحد منهما هو زوج باعتبار الآخر ، لأنه يصير بسبق الفرد الأول إياه زوجا. ثم غلب على الذكر والأنثى المقترنين من نوع الإنسان أو من الحيوان ، قال تعالى : (فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [المؤمنون : ٢٧] ، وقال : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [القيامة : ٣٩] وقال : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة : ٣٥]. ولمّا شاعت فيه ملاحظة معنى اتّحاد النّوع تطرقوا من ذلك إلى استعمال لفظ الزوج في معنى النوع بغير قيد كونه ثانيا لآخر ، على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق ، قال تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس : ٣٦] ، ومنه قوله : (فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) [لقمان : ١٠]. وفي الحديث : «من أنفق زوجين في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنّة ...» الحديث ، أي من أنفق نوعين مثل الطعام والكسوة ، ومثل الخيل والرواحل. وهذا الإطلاق هو المراد هنا ، أي فأنبتنا به أنواعا من نبات. وتقدّم في سورة الرعد.