باختلاف موصوفه ، فوصف به هنا (مَعِيشَةً) وهي مؤنث. والضنك : الضيق ، يقال : مكان ضنك ، أي ضيق. ويستعمل مجازا في عسر الأمور في الحياة ، قال عنترة :
إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا |
|
أشدد وإن نزلوا بضنك أنزل |
أي بمنزل ضنك ، أي فيه عسر على نازله. وهو هنا بمعنى عسر الحال من اضطراب البال وتبلبله. والمعنى : أن مجامع همه ومطامح نظره تكون إلى التحيل في إيجاد الأسباب والوسائل لمطالبه ، فهو متهالك على الازدياد خائف على الانتقاص غير ملتفت إلى الكمالات ولا مأنوس بما يسعى إليه من الفضائل ، يجعله الله في تلك الحالة وهو لا يشعر ، وبعضهم يبدو للناس في حالة حسنة ورفاهية عيش ولكن نفسه غير مطمئنة.
وجعل الله عقابه يوم الحشر أن يكون أعمى تمثيلا لحالته الحسية يومئذ بحالته المعنوية في الدنيا ، وهي حالة عدم النظر في وسائل الهدى والنجاة. وذلك العمى عنوان على غضب الله عليه وإقصائه عن رحمته ، ف (أَعْمى) الأول مجاز و (أَعْمى) الثاني حقيقة.
وجملة (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى) مستأنفة استئنافا ابتدائيا.
وجملة (قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ) إلخ واقعة في طريق المحاورة فلذلك فصلت ولم تعطف.
وفي هذه الآية دليل على أنّ الله أبلغ الإنسان من يوم نشأته التحذير من الضلال والشرك ، فكان ذلك مستقرا في الفطرة حتى قال كثير من علماء الإسلام : بأن الإشراك بالله من الأمم التي يكون في الفتر بين الشرائع مستحق صاحبه العقاب ، وقال جماعة من أهل السنّة والمعتزلة قاطبة : إنّ معرفة الله واجبة بالعقل (١) ، ولا شك أنّ المقصود من ذكرها في القرآن تنبيه المخاطبين بالقرآن إلى الحذر من الإعراض عن ذكر الله ، وإنذار لهم بعاقبة مثل حالهم.
والإشارة في (كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا) راجعة إلى العمى المضمن في قوله (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى) ، أي مثل ذلك الحال التي تساءلت عن سببها كنت نسيت آياتنا حين أتتك ، وكنت تعرض عن النظر في الآيات حين تدعى إليه فكذلك الحال كان عقابك عليه جزاء وفاقا.
وقد ظهر من نظم الآية أن فيها ثلاثة احتباكات ، وأن تقدير الأول : ونحشره يوم القيامة أعمى وننساه ، أي نقصيه من رحمتنا. وتقدير الثاني والثالث : قال كذلك أتتك آياتنا
__________________
(١) في المطبوعة (بالفعل).