عبادة أصنامه لم يجد لنفسه مقالا ففطن بخطل رأيه وسفاهة حلمه ، فإنه لو عبد حيّا مميزا لكانت له شبهة ما. وابتدأ بالحجة الراجعة إلى الحسّ إذ قال له : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) فذلك حجة محسوسة ، ثم أتبعها بقوله : (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) ، ثم انتقل إلى دفع ما يخالج عقل أبيه من النفور عن تلقي الإرشاد من ابنه بقوله : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) [مريم : ٤٣] ، فلما قضى حق ذلك انتقل إلى تنبيهه على أن ما هو فيه أثر من وساوس الشيطان ، ثم ألقى إليه حجة لا ثقة بالمتصلبين في الضلال بقوله : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) [مريم : ٤٥] ، أي إن الله أبلغ إليك الوعيد على لساني ، فإن كنت لا تجزم بذلك فافرض وقوعه فإنّ أصنامك لم تتوعدك على أن تفارق عبادتها. وهذا كما في الشعر المنسوب إلى علي رضياللهعنه :
زعم المنجّم والطّبيب كلاهما |
|
لا تحشر الأجسام قلت : إليكما |
إن صحّ قولكما فلست بخاسر |
|
أو صح قولي فالخسار عليكما |
قال : وفي النداء بقوله : (يا أَبَتِ) أربع مرات تكرير اقتضاه مقام استنزاله إلى قبول الموعظة لأنها مقام إطناب. ونظّر ذلك بتكرير لقمان قوله : (يا بُنَيَ) [لقمان : ١٣ ـ ١٦] ثلاث مرات ، قال : بخلاف قول نوح لابنه : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) [هود : ٤٢] مرة واحدة دون تكرير لأنّ ضيق المقام يقتضي الإيجاز وهذا من طرق الإعجاز». انتهى كلامه بما يقارب لفظه.
وأقول : الوجه ما بني عليه من أن الاستفهام مستعمل في حقيقته ، كما أشار إليه صاحب «الكشاف» ، ومكنى به عن نفي العلّة المسئول عنها بقوله : (لِمَ تَعْبُدُ) ، فهو كناية عن التعجيز عن إبداء المسئول عنه ، فهو من التورية في معنيين يحتملهما الاستفهام.
و (أَبَتِ) : أصله أبي ، حذفوا ياء المتكلم وعوضوا عنها تاء تعويضا على غير قياس ، وهو خاص بلفظ الأب والأم في النداء خاصة ، ولعله صيغة باقية من العربية القديمة. ورأى سيبويه أن التاء تصير في الوقف هاء ، وخالفه الفراء فقال : ببقائها في الوقف. والتاء مكسورة في الغالب لأنها عوض عن الياء والياء بنت الكسرة ولما كسروها فتحوا الياء وبذلك قرأ الجمهور. وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر : (يا أبت) ـ بفتح التاء ـ دون ألف بعدها ، بناء على أنهم يقولون (يا أبتا) بألف بعد التاء لأن ياء المتكلم إذا نودي يجوز فتحها وإشباع فتحتها فقرأه على اعتبار حذف الألف تخفيفا وبقاء الفتحة.