الثانية : إنهم لا يحاولون التدبّر في طبيعة التشريع الأول والثاني ، ليجدوا أنهما ينطلقان من الله في تعيين أيّة جهة من الجهات ليتوجه الناس إليها في عبادتهم ، وليستا منطلقتين من خصوصية ذاتية لهذه الجهة أو تلك ليمتنع الانتقال من جهة إلى جهة على أساس ذلك.
وعلى ضوء ذلك ، فلا مجال لأيّ اعتراض ، فإن الله يملك المشرق والمغرب معا وليس له اختصاص بجهة دون جهة ، فله أن يعيّن المشرق لنتوجه إليه ، وله أن يعيّن المغرب لنتوجه إليه ، وذلك ضمن الخطة التي يضعها للإنسان في تنظيم عباداته ومعاملاته ، مما يمكن أن يختلف فيه وجه الحكمة والمصلحة حسب اختلاف الخطّة الموضوعة ، فقد يكون في الاتجاه إلى جهة ما مصلحة في داخل خطة معينة ، وقد لا يكون فيه مصلحة بلحاظ خطة أخرى ..
(قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) فهو الذي يوجه عباده إلى هذه الجهة أو تلك ، ليمنحها القداسة من خلال ذلك ، فلا قداسة لجهة دون جهة بعيدا عنه ، وهو الذي يعلم صلاح عباده في كل مرحلة من المراحل ، فيوجب عليهم شيئا في وقت ليبدّله بشيء آخر في وقت آخر ، تبعا للمصالح التي تتبدل مع التغيرات الظرفية المتنوعة ، وإذا كان بيت المقدس متميزا بأنه موطن الأنبياء ، فإن الكعبة هي أول بيت وضع للناس بأمر الله نبيّه إبراهيم عليهالسلام ببنائه وبدعوة الناس إليه للحج ، فقد تتعلق حكمته بإبقاء بيت المقدس قبلة للمسلمين كما كان قبلة لغيرهم في الماضي ، للتدليل على اعتراف الدين الجديد بأهمية هذا المكان المقدس في وعي المسلمين ، ليؤكد هذا التعبير في خطهم الفكري ، ثم يأتي التشريع الجديد ليجعل الكعبة قبلة جديدة من أجل تأكيد الخصائص العبادية التي تختزنها في وجودها القدسي ، بالأمر الإلهي المباشر الصادر إلى خليله إبراهيم مما لا تملكه القبلة القديمة.