يتّضح من خلال هذين المثالين وبجلاء الهدف من الاستغفار كما يتّضح المراد من الذنب المذكور في الآيات.
لا ريب انّ النبي الأكرم ـ وبحكم آيات العصمة ـ معصوم ومصون من أي مخالفة للقوانين والأحكام الإلهية ويستحيل أن يترك الواجب أو يفعل الحرام ، ولكن هناك نكتة جديرة بالاهتمام وهي أنّ الوظائف العرفانية والأخلاقية للرسول الأكرم لا تنحصر في هذين القسمين (العمل بالواجبات وترك المحرمات) بل مقتضى عرفانه ومعرفته صلىاللهعليهوآلهوسلم بالمقام الربوبي يستوجبان أن لا ينقطع الرسول عن ذلك المقام ولو لحظة واحدة ، وينبغي عليهصلىاللهعليهوآلهوسلم أن يقوم بمراعاة جميع آداب الشأن الإلهي بالنحو الأكمل وأن يقدّم الأليق على اللائق دائماً ، فلو فرضنا أنّ الرسول انقطع ولو لحظة واحدة لشأنه الخاص باعتباره إنساناً ، فانّ هذا الانقطاع اليسير جداً يُعدُّ في منطق العرفان ذنباً وجرماً يتطلّب التوبة والمغفرة والإنابة وإن كان في منطق الشرع وطبقاً لموازين الكتاب والسنّة لا يُعدُّ جرماً ولا ذنباً.
ونحن إذا أمعنّا النظر في أسباب نزول بعض الآيات والقرائن الحافّة بها يتّضح لنا جلياً أنّ استغفار النبي من تلك الأُمور ناشئ من المعرفة العالية والعرفان السامي للنبي الأكرم الذي يوجب عليه القيام بالأُمور بشكل وطريقة أُخرى ، وهذا ما يصطلح عليه المفسّرون «ترك الأولى».
فإذا كان النبي الأكرم قد أُمِرَ بطلب المغفرة في تلك الآيات أو أنّ الأنبياء قد طلبوا المغفرة كنوح وإبراهيم وموسى ، فانّ طلبهم هذا يندرج تحت المعنى الذي ذكرناه ، فعلى سبيل المثال نجد أنّ النبيّ نوحاً عليهالسلام يطلب المغفرة ويناجي ربه بقوله : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً ...). (١)
__________________
(١). نوح : ٢٨.