ثمّ بعد حصول هذه المقدّمات للمكلّف أعني : صيرورة تحصيل الواقع موجبا لمفسدة أعظم ودفع وجوبه من الشارع يصير حاله حال من انسدّ عليه باب العلم بالواقع عقلا ، ولا إشكال أنّ المكلّف في هذا الحال أي حال انقطاع يده من العلم لو خلّي وطبعه ، لكان حكم عقله الرجوع إلى ظنّه الفعلي في تشخيص الحكم الواقعي ، وكان هو المتعيّن بعد العلم بحكم عقله.
لا يقال : إنّ نتيجة مقدّمات الانسداد على فرض تماميّتها هو التبعيض في الاحتياط لا حجيّة الظّن.
لأنّا نقول : نحن نتكلّم على فرض المبنى الأخير ، فلو أعلمه الشارع العالم بالغيب بطريق أقرب كما لو رأى الشارع أنّ المكلّف بعد هذه المقدّمات لو عمل على طبق ظنّه كما هو مقتضى عقله ، لوقع في أكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر ، ولكن لو عمل على طبق مفاد خبر الثقة لكان واقعا في أكل الميتة فقط ويكون وقوعه في خلاف الواقع أقلّ فأعلمه الشارع حينئذ بأنّ هذا الطريق الخاص أقرب من سائر الطرق إلى الواقع فهل صدر منه فعل قبيح ، وهل يقول العاقل في ما إذا أدّى هذا الطريق الخاص إلى حليّة الخمر مثلا : إنّ الشارع قد أوقعه في مفسدة شرب الخمر؟ أو يقال : إنّه فعل فعلا حسنا؟ فإنّه لو لم يعلمه وقع في هذه المفسدة ومائة مفسدة اخرى ، فالشارع حفظه عن الوقوع في خمسين منها.
وبعبارة اخرى : أنّه وإن كان للشارع في الواقعة الواحدة حكمان أحدهما عدم الجواز والآخر الجواز ، إلّا أنّه صدر الأوّل منه على أنّه حاكم ، وصدر الثاني منه على أنّه عاقل ، فكما أنّ العقل لو رأى فيما بين الظنون ظنّا أقوى من سائر الظنون يحكم بتعيّنه ، فكذا هنا أرشد الشارع إلى أنّ خبر الثقة أقوى من الظنّ الفعلي ، وبعد القطع بصدقه يحكم العقل بوجوب اتّباع خبر الثقة دون سائر الظنون.
فإن قلت : كيف يمكن منع المكلّف عن الطريق الذي يكون أقرب بنظره إلى الواقع إلى غير الأقرب ؛ فإنّ الظنون الفعليّة كلّها أقرب من الأوهام التي في قبالها ، فكيف يمكن إرجاع المكلّف إلى الأوهام؟.