الثالث : التفصيل بين ما لو كان بانيا عند اختياره لأحد الاحتمالين على الاستمرار على مختاره فيستمرّ حكم التخيير ، وبين ما لم يبن على ذلك فلا يجوز العدول عما اختاره ، لأنّ المخالفة القطعية التي يلزم على الأول لا يحكم العقل بقبحه وصحة العقاب عليه ، إذ هي مخالفة اتفاقية في الأمور التدريجية نظير تبدّل رأي المجتهد من الوجوب إلى الحرمة أو بالعكس ، أو عدول المقلّد من مجتهد إلى مجتهد آخر ، وهذا بخلاف ما لو لم يبن على الاستمرار المذكور بل بنى على اختيار الفعل تارة واختيار الترك تارة أخرى فإنّ المخالفة القطعية في هذه الصورة معصية بحكم العقل والعقلاء موجبة للذم يصحّ العقاب عليها فلا يجوّز العقل العدول عما اختاره أوّلا حذرا من لزوم المخالفة القطعية الكذائية.
الرابع : التفصيل بين ما لو بنى من أول الأمر على الاستمرار على التخيير فيستمر حكم التخيير وبين ما إذا لم يبن عليه فلا يجوز العدول ، وذلك لأنّه لو بنى من أول الأمر على اختيار جانب احتمال الوجوب مثلا دائما صار ذلك حكمه ، فالعدول عنه إلى اختيار احتمال الحرمة عدول عن حكمه الشرعي لأنّه قد أخذ بحكم جميع الوقائع باختياره الأول ، وأما إذا بنى من أول الأمر على الاستمرار على التخيير فعند الواقعة الأولى لو أتى بالفعل رعاية لاحتمال الوجوب مثلا لم يمنع ذلك عن اختيار الترك في الواقعة الثانية لأنّه لم يأخذ عند الواقعة الأولى إلّا حكم تلك الواقعة ، وباقي الوقائع بعد على حكم التخيير الأوّلي ، هذا كله بالنظر الجلي.
وأما ما يقتضيه النظر الدقيق فالتحقيق أن يقال : إنّ القول بالتخيير إن كان من جهة ما ذكرنا سابقا من أنّ الأخذ بكل من الفعل أو الترك من باب الاحتياط ورعاية العلم الإجمالي بقدر الإمكان فلا ريب في كون التخيير استمراريا ، لأنّ اختياره الفعل أو الترك لم يجعله حكما شرعيا له حتى يشكّ في بقائه