فضلاً عن مجموعها ، أن يكون دليلاً على ترك الأولى فقط ، من جملتها : أنّه تسرّع في ترك قومه إذ كان الأجدر به أن يصبر أكثر ، أو أنّه تعجّل بالدعاء عليهم ، أو أنّه كان ينبغي عليه انتظار الأمر الإلهي حين خروجه من بين قومه حتى ولو كان قد يئس من هدايتهم على ما يبدو.
ولا يخفى أنّ أيّاً من هذه الامور لا يعدّ ذنباً ، لكنّها لو لم تكن لكان أفضل ، وبناءً على هذا فقد استحقّ العتاب والملامة ، والتعبير بـ «الظلم» أو «الإبتلاء بالعقاب الإلهي» إنّما هو من بابـ «حَسَناتُ الابْرارِ سَيِئاتُ الْمُقَرَّبينَ» ، والذي تقدّم الكلام عنه مفصّلاً عند البحث عن ترك آدم عليهالسلام للأولى ، كما يحتمل أيضاً تصوّره بأنّ الله تعالى لن يضيق عليه (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) ، أنّ تصوّره هذا كان بمثابة ترك الأولى ، وذلك لأنّ تمتّع الأنبياء عليهمالسلام بمستوى عالٍ من الإيمان يفرض عليهم العيش دائماً بين الخوف والرجاء لا اعتبار أنفسهم في أمان من العقاب الإلهي ، أو القنوط من رحمته.
أمّا التعبير بـ «مغاضباً» فواضح أنّه يعني الغضب على أعمال قومه المذنبين ، لا الغضب على الله تعالى! كما ذهب إليه بعض المغفّلين ، لأنّ هذا ليس فقط متنافياً مع مقام الأنبياء ، بل لا يتناسب وأدنى حدّ من الإيمان أيضاً لأنّ ما يقابل الغضب على الله هو الكفر بالله.
وعبارة «مغاضباً لربّه» الواردة في الروايات أو كلمات بعض أقطاب أهل التفسير إنّما تعني «مُغَاضِباً لَاجْلِ رَبِّهِ» أي أنّه غضب لأجل الله تعالى نتيجة أعمال قومه.
ومن هنا يتّضح سبب مكوثه في سجن مظلم تتوالى ظلماته الواحدة بعد الأخرى (ظلمة بطن الحوت ، ظلمة البحر ، وظلمة الليالي)؟ وسبب عزمه على التضرّع والإستغفار وطلب العفو ، بتلك العبارات الموزونة المتينة : (لَاإِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).
الملفت للنظر هو ما جاء في البعض من الروايات ، أنّ الإمام علي بن موسى الرضا عليهالسلام قال : «حينما كان يونس في خلوته في بطن الحوت متوجّهاً بكلّ وجوده إلى العبادة مستجيراً بالله تعالى وحده ، اعتبر نفسه من الظالمين لأنّه لم يأت بعبادة خالصة كهذه من قبل ، فقال أن