ونفس هذا المعنى تكرّر أيضاً في سورة الصافات ، وذلك بعد الإشارة إلى قصّة هربه من قومه وركوبه في السفينة ، وإلقاء القرعة ثمّ إلقائه في فم حوت عظيم ، يقول تعالى : (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). (الصافات / ١٤٣ ـ ١٤٤)
ما هو الذنب الذي اقترفه ليسجن في بطن الحوت ، ويلبث فيه مدّة مديدة لولا تسبيحه لله تعالى؟ ، خلاصة القول : إنّ قصّة يونس عليهالسلام التي جاءت في ثلاث سور من القرآن الكريم (الأنبياء ، القلم ، الصافات) وبعبارات مختلفة تثير استفهامات شتّى حول مقام عصمة هذا النبي العظيم وتستدعي جواباً منطقيّاً.
* * *
الجواب :
صحيح أنّ التعابير المختلفة للآيات المذكورة تبيّن أنّ ذنباً ما قد صدر من يونس عليهالسلام ، فالتعبير بـ «الظالم» و «المليم» (يأتي أحياناً بمعنى ملامة النفس ، أو القيام بعمل يستوجب ملامة الآخرين لفاعله ، لأنّ لفظة «المليم» قد فسّرت بكلا المعنيين) ، وكذلك التعبير بأنّ يونس عليهالسلام : (فلَوْلا أَنّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ الى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، والتعبير بـ (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ) وتعبير (لَاتَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) ، الذي يأمر نبي الإسلام صلىاللهعليهوآله : بأن لا يكون كيونس عليهالسلام ، وكذلك تعبير : (لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) ، كلّ هذه التعابير تبيّن وقوع شيء ممّا لا ينبغي وقوعه.
لكن القرائن تشير إلى أنّ هذا العمل المخالف لم يكن سوى ترك الأولى ، لأنّ الله تعالى وفي نفس هذه الآيات قد تحدّث عن يونس كنبي مرسل ، موضع العناية الإلهيّة الخاصّة ، وفي سورة (الأنعام / ٨٦) يعتبره الله تعالى من الأنبياء العظام الذين فضّلهم على العالمين ، كما يعتبره في عداد الأنبياء عظيمي الشأن كإبراهيم ونوح وإسماعيل وعيسى عليهمالسلام ، وذلك في سورة (النساء / ١٦٣).
امّا ما هو ترك الأولى هذا؟ فهناك احتمالات متنوّعة ، يمكن لكلّ واحد منها منفرداً