لكن ما هو «ترك الأولى» بالنسبة لإبراهيم ياترى؟ قال البعض : إنّ المراد به هو كلّ تلك الحالات التي تتسبّب في غفلة الإنسان عن الله تعالى بأي نحو كان ، كالإشتغال بشؤون الحياة مثل الأكل والشرب وأمثالها التي يعتبرها أولياء الله ذنباً لغفلتهم عن الله تعالى ولو بهذه الدرجة (١).
وفيما يتعلّق بالآية الرابعة ، أي إشارة إبراهيم إلى النجم والقمر والشمس ، ووصفه إيّاها «هذا ربّي» فللمفسّرين فيه أقوال وآراء كثيرة أيضاً ، أقواها أن نقول : إنّ إبراهيم كان في مقام الحوار والاستدلال مع المشركين من عبدة النجم والقمر والشمس (بقرينة الآيتين اللتين تحفّان بهذه الآية ، واللتين تتعرّضان لحوار إبراهيم واحتجاجه على الوثنيين).
وبناءً على هذا فقد وقف إبراهيم عليهالسلام بوجه هذه المجاميع الثلاث كلّ على حدة ، إذ وافقهم على آرائهم في أوّل الأمر ، وعلى سبيل الفرض لحين أُفول هذه الكواكب السماوية لكي يتبيّن لهم خطأهم ، بالضبط مثلما نواجه القائلين بسكون الأرض وحركة الشمس حول الأرض فنقول لهم حسناً ، كما تقولون ، لكن هل تعلمون أيّة دائرة عظيمة يستلزمها كلامكم هذا لكي تتمكن الشمس التي تفصلها عن الأرض تلك المسافة البعيدة ، وأي سرعة عظيمة تحتاج للدوران حول الأرض دورةً كاملة كلّ ٢٤ ساعة ، وثبوت هذه السرعة لمثل هذا الجرم السماوي من المستحيلات ، إذن ، يتّضح من ذلك بطلان فرضيتكم ، (فتأمّل جيّداً).
هذا هو أحد أفضل الطرق التي يمكن استخدامها لإبطال نظريات الخصم ، أي الوقوف معه أوّلاً ، وموافقته (على سبيل الفرض) ، دون إثارة روح التعصب والعناد عنده ، ثمّ إيقافه على نتائجها الباطلة ، كما قال البعض أيضاً : إنّ استخدام جملة «هذا ربّي» أمام هؤلاء القوم كان بمثابة «استفهام» ، ذلك الإستفهام الذي يعدّ مقدّمة لإبطال نظرياتهم عند غروب وافول تلك الكواكب.
__________________
ـ تدريجيّاً لتطلق على كلّ ذنب يشمل العمد وغيره ، واستعمالها في الذنب غير العمد واسع جدّاً ، لكن «الإثم» يطلق على الذنوب العمدية ، وهو يعني في الأصل : الشيء الذي يثني الإنسان عن عزمه ، وحيث إنّ الذنب يحول دون بلوغ الإنسان للمنزلة الرفيعة ويمنع عنه الكثير من الخيرات والبركات فقد سمّى «إثماً».
(١) تفسير الميزان ، ج ١٥ ، ص ٢٨٥.