أمّا القول : إنّ إبراهيم عليهالسلام قد نطق بهذه الجمل للتحقيق بنفسه ولا مانع من قبول الإنسان لمختلف الآراء مبدئيّاً واختبارها ، فلا يبدو صحيحاً لأنّ جملة : (يَا قَوْمِ إِنِّى بَرِىءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (الانعام / ٧٨) دليل على أنّه كان بمثابة الإحتجاج على هؤلاء المشركين لا التحقيق بنفسه.
وقول البعض تأييداً لهذا الإدّعاء : إنّ إبراهيم لم ير السماء إلى تلك اللحظة بصورة جيّدة ، لأنّ والدته كانت قد خبأته في غار خارج المدينة خوفاً من عيون نمرود ، فيبدو كلاماً بعيداً جدّاً ، إذ كيف يعقل أن يبقى إبراهيم في الغار طوال سنين عديدة منذ طفولته وحتّى ريعان شبابه ولا يخرج منه ولو لمرّة واحدة ، لا ليلاً ولا نهاراً؟! هذا الكلام أقرب إلى الاسطورة من الواقع (١).
فضلاً عن أنّ هذه الآيات قد وردت على الفور ، بعد الآية التي تتعرّض للحوار الجدّي لإبراهيم مع آزر حول مسألة تسفيه اعتقاده بالأصنام ، أي أنّ إبراهيم عليهالسلام كان قد بلغ مقام التوحيد الرفيع واليقين الراسخ قبل ذلك ، وأنّ الله تعالى كان قد أطلعه على ملكوت السماوات ، وقد بدأ إبراهيم عليهالسلام بعده بدعوة الآخرين لا التحقيق لنفسه.
* * *
الملاحظة الجديره بالاهتمام هي : إنّ إبراهيم ولبيان بطلان ربوبية هذه الكواكب الثلاثة ، أورد دليلاً يعدّ من أدقّ البراهين الفلسفية ، في الوقت الذي يسهل على الجميع استيعابه ، فيقول في هذا الدليل : إنّ «الربّ» يجب أن يبقى على اتّصال دائم بمخلوقاته ، وبناءً على هذا فالموجود الذي يغرب فينقطع نوره وبركاته لساعات طوال ، لا يمكن أن يكون ربّاً لهذه الموجودات.
فضلاً عن أنّ الشروق والغروب المستمرين لهذه الأجرام السماوية ، دليل على خضوعها لقانون ما ، وكيف يتسنّى للموجود الواقع في قبضة القوانين الكونية ، والطبيعية أن يكون
__________________
(١) وقد جاء ذلك في عيون أخبار الرضا عن الإمام علي بن موسى الرضا عليهالسلام أنّ إبراهيم خرج من مخبئه والتقى بثلاث طوائف من المشركين (تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٧٣٥).
يعدّ في ذاته دليلاً على خلاف هذا الإدّعاء فضلاً عن دعمه له «تأمّل جيّداً».