ولعل ما ذكرنا من الاستظهار كاف في إثبات التحريم.
ففي تفسير العياشي عن أبان بن تغلب قال قال أبو عبد الله (ع) أترى الله اعطى من اعطى من كرامته عليه ومنع من منع من هوان به عليه لا ولكن المال مال الله يضعه عند الرجل ودائع وجوز لهم ان يأكلوا قصدا ويشربوا قصدا ويلبسوا قصدا وينكحوا قصدا ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين ويلموا به من شعثهم فمن فعل ذلك وكان ما يأكل حلالا وينكح حلالا ومن عدا ذلك كان عليه حراما ثم قال (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أترى الله ائتمن. الحديث. تفسير عياشي ص ١٣. واما قوله تعالى (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (إسراء ٢٧ ـ ٢٦) فلا يصح الاستدلال بها في المقام فإن الآية الكريمة في مقام حدود البذل والعطاء وتبذير المال اي تفريقه.
في البرهان عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله في قوله تعالى (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) قال بذل الرجل ماله ويقعد وليس له مال قلت فيكون تبذيرا في حلال؟ قال نعم. وهكذا قوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (إسراء ٢٩) وأما قوله تعالى (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (فرقان ٦٧) فلا يجوز الاشهاد بهذه الآية في المقام فان المراد بالإسراف هو التجاوز في الإنفاق على نفسه وعياله زائدا على قدر المندوب من التوسعة على نفسه وعياله والإقتار هو التضييق على نفسه وعياله ما دون الحد المطلوب.
فحيث أن التبذير من أنواع الإسراف وكذلك في الإنفاق مقابل الإقتار فلا مانع من الاستدلال بتحريمها بالآية المبحوثة عنها وبعمومها.
(الآية الثالثة)
قال تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) (المائدة آية ٤) بيان أول ما نزل تحريم الميتة في سورة النحل وهي مكية قال تعالى (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) الآية (النحل ١١٥) ثم في سورة الانعام قال تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (إنعام ١٤٥) ثم في البقرة وهي مدنية قال تعالى (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ.) الآية (١٧٣).
ثم في هذه السورة وهي مدنية أيضا ويظهر من بعض الروايات انها آخر سورة نزلت على النبي (ص) وليس هذا التحريم تشريع جديد ولعل الفرق والعناية المنظورة بين الآيات ان الآيات التي نزلت قبلها بعضها في مقام الامتنان بعد ذكر عدة من الطيبات وتحليلها وإباحتها ذكرهم بأن الله انما حرم عليهم الخبائث مثل الميتات والمضرات