ولتعلن وتتجاوزن حدود الشرع والعقل بالبغي والظلم والتعالي على الناس والكبر.
فإذا جاء وعد أولاهما ، وحان وقت العقاب الموعود به في الدنيا على المرة الأولى بعثنا عليكم عبادا من عبيدنا أولى بأس وقوة ، أصحاب عدة في الحروب وعدد ، وهؤلاء القوم الذين أغاروا عليكم قد جاسوا خلال الديار ، وفتشوا البلاد ، ونقبوا عليكم ليستأصلوكم بالقتل والتشريد ، وهكذا كل أمة تفسد في الأرض بالبغي والظلم ، حتى تفسد نفوس أبنائها وتطغى لا بد من أن يرسل الله عليها من يذلها ويذيقها سوء العذاب جزاء فسادها ، ولو كان المؤدب لها من الكفار المشركين (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، وهذا قضاء محتوم ، وسنة لا تتخلف ، ووعد محقق ، وكان وعد ربك مفعولا حتما.
هذا الدرس القاسي الذي تلقاه بنزول إسرائيل على يد المغير ، قيل : هو بختنصر وقيل : هو جالوت ، وقيل : جند من بابل أو فارس ، والله أعلم بذلك ، وليس القرآن كتاب تاريخ حتى تلزمه ببيان الشخص أو الجماعة بالضبط مع تحديد المكان والزمان ، ولكن القرآن جاء للعبرة والعظة ، والنظرة العليا التي هي أسمى من هذا وذاك ، لعل الناس يعتبرون بالحوادث.
هذا الدرس القاسي الذي تلقوه أثمر معهم فثابوا لرشدهم ، ورجعوا عن غيهم وتمسكوا بكتابهم ودينهم فكانت النتيجة كما قال الله.
ثم رددنا لكم يا بني إسرائيل الكرة عليهم ، وأعدنا لكم الدولة والغلبة عليهم (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) أو أمدكم الله بالأموال والبنين وأمدكم بالسلاح والرجال المخلصين وجعلكم أكثر نفيرا مما كنتم عليه ، وهكذا سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
إن أحسنتم العمل أحسنتم لأنفسكم لأن نتيجة العمل وثوابه لكم ، وإن أسأتم العمل بالفساد والبغي فلأنفسكم فقط ، كل نفس بما كسبت رهينة (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) فإذا جاء وعد المرة الآخرة ، وحان موعد العقاب فيها بعثنا عليكم رجالا ليذيقوكم سوء العذاب وليجزوكم بالقتل والسبي حزنا تظهر علاماته في وجوهكم ، وليدخلوا المسجد الأقصى كما دخلوه في أول مرة للتخريب والتدمير وإحراق التوراة ، وهتك المقدسات عندكم ، وليهلكوا ما علوه وغلبوكم عليه من الأرض والزروع والثمار هلاكا شديدا.