فلما سمعوا هذا من موسى أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث ، ويتشاورون فيما بينهم ، وأسروا نجواهم قائلين : إن غلبنا فسنتبعه ، وقيل إنهم لما سمعوا من موسى قوله : (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) وأسروا فيما بينهم بأن هذا ليس بساحر أبدا. وقيل كانت نجواهم هي قولهم إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ، ويذهبا بطريقتكم ومذهبكم الأمثل الحسن ، وقيل يذهب بأشراف قومكم ويهلكهم.
فأجمعوا كيدكم غدا ، وأحكموا أمركم واعزموا عليه ثم ائتوا مصطفين فذلك أدعى إلى تربية المهابة في نفوس النظارة ، وقد أفلح اليوم من استعلى وغلب خصمه ، وكانت له المكانة إلى الأبد.
فلما التقى الصفان ، واجتمع الطرفان قالوا. يا موسى إما أن تلقى أوّلا ، وإما أن نكون نحن الملقين أوّلا.
قال موسى. بل ألقوا أنتم أولا ، أشار بهذا ليفرغوا جهدهم أولا ، ويلقوا بكل أسلحتهم ، فلما ألقوا إذا حبالهم وعصيهم يخيل إلى موسى من سحرهم أنها تسعى ، وذلك أنهم وضعوا فيها مادة الزئبق التي إذا أحست بالحرارة تحركت واضطربت.
في تلك اللحظة ابتهج فرعون وجنوده وعلية القوم ، وأيقنوا أنهم نجحوا ، وأن السحرة قد فازوا على خصمهم موسى وهارون ، وأنه لا يمكنه أن يأتى بشيء أعظم من سحرهم إذ كل ما في يده عصاه فإذا قلبت حية فهي حية واحدة بين آلاف الحيات.
وفي تلك اللحظة الفاصلة هال موسى ما رأى ، وأوجس في نفسه خيفة مما حصل ، ودار بذهنه فيما عسى أن يكون لو لم يبعث الله له نصر السماء.
ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ العليم الخبير القوى القادر الذي لا يترك عباده المخلصين وحدهم بل هو معهم وقد قال لهما : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى).
وفي هذه اللحظة أمره ربه أن يلقى عصاه التي هي بيمينه فإذا هي حية تسعى ولكنها ليست كحيات السحرة بل أخذت تبتلع حياتهم كلها وتلتهمها بسرعة وخفة.
والله أكبر ظهر الحق وبطل السحر ، وجاء الحق وزهق الباطل ودهش آل فرعون والملأ من قومه بل وكل الناس ؛ وعلم السحرة ـ وهم أدرى الناس بالسحر وطاقته