ولقد جاءهم موسى بالآيات الشاهدة على صدقه ، الدالة على أنه رسول رب العالمين ولكنهم قالوا له : ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر قد افتريته من عندك ونسبته لربك وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه ، في آبائنا الأولين ، حاجهم موسى بالعقل والمنطق ، وساق لهم الآيات الشاهدة مصدقة ، فكان الجواب والرد الذي يدل على الحماقة ما هذا إلا سحر ، وما سمعنا به قديما ، وما سمعنا عن دعوتك في آبائنا الأولين.
وقال موسى ردا عليهم : ربي الذي خلق كل شيء ، ويعلم الغيب في السموات والأرض أعلم منكم بمن جاء بالهدى والنور من عنده ، وهو أعلم بمن تكون له العاقبة الحسنى ، والجزاء الأوفى يوم القيامة ، ولا يفلح عنده الظالمون أبدا في الدنيا والآخرة.
ولو كنت كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا على الله لما أعطانى الآيات ، ولما هداني إلى الحق والخير الذي أدعو إليه لأنه غنى حكيم ، لا يرسل الكاذبين ، ولا الساحرين ولا يفلح عنده الظالمون ، وهو القاهر فوق عباده ، الخبير بخلقه ، لا تخفى عليه خافية وهذا تهديد لهم ، وتثبيت لغيرهم.
ولما ألح موسى على فرعون بالدعوة إلى الإيمان بالله ، وهو في ملأ من قومه ، وهذا يحط من شأنه ، ويضيع من هيبته ، وهو حريص على ذلك جدا ، أخذ يقول تارة : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (١) ، ويقول مرة أخرى : إنه سيتخذ الوسيلة للصعود إلى إله موسى ليصفى الحساب معه ، ولعله فهم من قول موسى. رب السماء والأرض أنه يجلس في السماء لا في الأرض.
انظر إليه يخاطب القوم ، ويقول : يا أيها الملأ ـ الأشراف ووجوه القوم ما علمت لكم من إله غيرى ، يقصد بذلك نفى وجود إليه غيره.
وإذا كان يعتقد أنه هو الإله ، ولا إله غيره أبدا فكيف يقول : يا هامان ابن لي صرحا لعلى أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى ، وإنى لأظنه من الكاذبين؟! ولعله يقول ذلك من باب التسليم للخصم.
ومن الناس من يدعى رأيا ويقول به ، وهو عالم أنه مخطئ فيه ، ولكن لأن رأيه على غير أساس ، لا يلبث أن يشك فيه ويرجع عنه طمعا ، في أنه ربما يصادف شيئا.
__________________
(١) سورة الشعراء الآية ٢٧.