يقرأ أحدنا كلاما ليس من لغته فلا يعرف معناه ، من قال ذلك فقد كذب على القوم ، والمأثور عنهم متواترا يناقض هذا الزعم ، وأنهم يفهمون معنى المتشابه كما يفهمون معنى المحكم ـ قال بعد ذلك :
فإن قيل : هذا يقدح فيما ذكرتم من الفرق بين التأويل الذي يراد به التفسير ، وبين التأويل الذي في كتاب الله.
قيل : لا يقدح في ذلك ، فإن معرفة تفسير اللفظ ومعناه وتصوّره في القلب ، غير معرفة الحقيقة الموجودة في الخارج ، المرادة بذلك الكلام.
فإن الشيء له وجود في الأعيان ، ووجود في الأذهان ، ووجود في اللّسان ، ووجود في البيان. فالكلام لفظ له معنى في القلب ، ويكتب ذلك اللفظ بالخطّ. فإذا عرف الكلام وتصوّر معناه في القلب وعبّر عنه باللّسان ، فهذا غير الحقيقة الموجودة في الخارج ، وليس كل من عرف الأول عرف عين الثاني.
مثال ذلك : أن أهل الكتاب يعلمون ما في كتبهم من صفة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وخبره ونعته ، وهذا معرفة الكلام ومعناه وتفسيره ، وتأويل ذلك هو نفس محمّد المبعوث ؛ فالمعرفة بعينه معرفة تأويل ذلك الكلام.
وكذلك الإنسان قد يعرف الحجّ والمشاعر ، كالبيت والمساجد ومنى وعرفة ومزدلفة ، ويفهم معنى ذلك ولا يعرف الأمكنة حتى يشاهدها ، فيعرف أن الكعبة المشاهدة هي المذكورة في قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) وكذلك أرض عرفات وغيرها.
وكذلك الرؤيا يراها الرجل ، ويذكر له العابر تأويلها فيفهمه ويتصوره ، ثم إذا كان ذلك فهو تأويل الرؤيا ، ليس تأويلها نفس علمه وتصوره وكلامه ؛ ولهذا قال يوسف الصدّيق : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) وقال : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) فقد أنبأهما بالتأويل قبل أن يأتي التأويل ،