وإلى هذا القول ذهب من علماء أهل السنة الشعبي ، وإبراهيم النخعي ، وعطاء ، ومالك (١) وذهب جمع منهم إلى أن الآية المباركة منسوخة بقوله تعالى بعد ذلك :
(فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) «٥ : ٤٨».
وروي عن مجاهد أنه ذهب إلى أن آية التخيير ناسخة للآية الثانية.
والتحقيق : عدم النسخ في الآية ، فإن الأمر بالحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله في قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) مقيد بما إذا أراد الحاكم أن يحكم بينهم ، والقرينة على التقييد هي الآية الاولى. ويدلّ على ذلك أيضا ـ مضافا إلى شهادة سياق الآيات بذلك ـ قوله تعالى في ذيل الآية الاولى : «وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط» فإنه يدل على أن وجوب الحكم بينهم بالقسط معلق على إرادة الحكم بينهم ، وللحاكم أن يعرض عنهم فينتفي وجوب الحكم بانتفاء موضوعه. ومما يدل على عدم النسخ في الآية المزبورة الروايات التي دلّت على أن سورة المائدة نزلت على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جملة واحدة ، وهو في أثناء مسيره.
فقد روى عيسى بن عبد الله ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي صلىاللهعليهوآلهوسلم «إن سورة المائدة كانت من آخر ما نزل على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنها نزلت وهو على بغلته الشهباء ، وثقل عليه الوحي حتى وقعت» (٢).
وروت أسماء بنت يزيد ، قالت :
«إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله إذ أنزلت عليه المائدة كلها ، وكادت من ثقلها تدق من عضد الناقة» (٣).
__________________
(١) الناسخ والمنسوخ للنحاس : ص ١٣٠ ، وفي أحكام القرآن للجصاص : ٢ / ٤٣٤ نسبة هذا القول الى الحسن أيضا.
(٢) تفسير البرهان : ١ / ٢٦٣.
(٣) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢.