عن الذين يفسدون في الأرض ، وأنتم على علم اليقين بحقيقتهم ، ويروى أن ابن عباس حين سمع قوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) ـ ١١٣ هود» قال : إذا كان هذا حال من لا يصدر عنه إلا مجرد ركون ، ولم يشترك في قول أو فعل ، فالويل كل الويل لمن أطرى وشارك.
٢٨ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) تقودكم إلى الإثم والحرام ، فكم من رجل آثر زوجته وذويه وأولاده على السائل والمحروم ، ومنعهما من الحق المنصوص عليه بالقرآن ، وأسوأ حالا من هذا من يقبض من أموال الأغنياء أسهم الفقراء وحقوقهم ليوصلها إليهم كأمين ، فيستأثر بها هو وذووه كأنها ميراث من أبيه أو من كد يمينه! (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) إن ثواب الله خير وأفضل من الأموال والأولاد ، ولكن عند المتقين باطنا وواقعا لا شكلا وظاهرا.
٢٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) إذا تحررتم من عاطفة حب المال والأولاد وطغيانها على دينكم وعقولكم يجعل في قلوبكم هدى ونورا تفرقون به بين الحق والباطل والخطأ والصواب.
٣٠ ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ) يا محمد (الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم الجبابرة الطغاة من قريش (لِيُثْبِتُوكَ) ليقيدوك وليوثقوك (أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) يشير سبحانه بهذا إلى قصة تآمر قريش على رسول الله (ص) ومبيت عليّ في فراشه ، وخلاصتها أن قريشا أجمعت على الخلاص من النبي ، فأشار بعضهم أن يوثق ويقيد فتشل حركته ودعوته ، وقال آخر : انفوه من مكة ، ثم اتفقوا جميعا أن يختاروا من كل قبيلة رجلا ، ويغتالوه بضربة واحدة مجتمعين وهو نائم في فراشه ، فيتفرق دمه في القبائل ، ولا يقوى بنو هاشم على حرب الجميع ، فأوحى الله إلى رسوله بقصتهم ، وأمره أن يبيت علي في فراشه بعد أن يتشح ببرده ، ولما بادر القوم إلى مضجع الرسول (ص) أبصروا عليا ، فبهتوا وأبطل كيدهم ومكرهم ، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله : (وَيَمْكُرُونَ) أي يدبرون قتل محمد بوسيلة لا يؤخذون معها بدمه (وَيَمْكُرُ اللهُ) أي يبطل سبحانه مكرهم وكيدهم بما دبر من مبيت علي وهجرة النبي (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي أن تدبيره تعالى فوق كل تدبير وتقدير ، وتقدم مثله في الآية ٥٤ من آل عمران.
٣١ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) القرآن (قالُوا) بعض مشركي قريش : (قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) ولما ذا سكتوا؟ وقد تحداهم أن يقلدوا سورة واحدة ، وقرعهم بالعجز والقصور ، وهم الحريصون على تكذيبه ... ولا شيء أيسر على الإنسان من الكلام وحركة اللسان ... لقد أنكر السفسطائيون وجود كل شيء حتى وجودهم!
٣٢ ـ (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ...) هم يعلمون علم اليقين أن محمدا نبي حقا وصدقا ، ولكنهم يفضلون الهلاك والخلود في العذاب الأليم على الخضوع له والاعتراف بفضله ، وهكذا يفعل الحقد والحسد إذا تأججت ناره في الصدور ، وإني لأعرف معرفة شخصية في هذا الوصف أكثر من واحد.