الصديق القديس و (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) وما أبعد ما بين موقفها هذا ، وموقفها الأول الذي قالت فيه لزوجها : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وأنصحك أيها القارئ أن تنظر ما ذكرناه حول قولها هذا لزوجها ، وتقارن بينه وبين موقفها الأخير ، لتعلم أن الإنسان الفرد لا ضابط له على الإطلاق ، وأنه يتقلب ويتحول تبعا للظروف ، فهو في بعضها معتد أثيم ، وفي آخر رؤوف رحيم تماما كالماء يصبح بخارا أو ثلجا تبعا للبيئة الملائمة ، وإذن من الحمق والرعونة أن نحدد ونحكم على الفرد بلا قيد وشرط انطلاقا من مشهد واحد ، ونتجاهل خصائصه الكامنة التي لا تبرز للوجود إلا بالمحك والمفاجئات والمخبآت.
٥٢ ـ (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) للمفسرين أقوال حول هذه الجملة ، وذهب ابن كثير إلى أنها من كلام امرأة العزيز ، تعترف به على نفسها ليعلم زوجها أنها لم تخنه مع أي إنسان في غيبته سوى أنها راودت يوسف فامتنع. وما حدث منها إلا هذا الذنب ليعلم زوجها أنها بريئة. وليس هذا ببعيد عن السياق ولا عن الاعتبار ، فإن الزوجة تهتم قبل كل شيء أن تكون نزيهة عند زوجها.
٥٣ ـ (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) لا لشيء إلا لأني إنسان له نفس تهفو إلى ما لذ وطاب سيئا كان أم حسنا ، ولا تسلم من عمل السوء إلا بشيء من رحمته تعالى وتوفيقه ، وقد تجاوزني هذا التوفيق حين راودت يوسف ، لأني كنت في عمى عن الله ونهيه.
٥٤ ـ (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) بيوسف (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أجعله خالصا لي وموضع ثقتي ومشورتي ، وحضر يوسف (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) الملك رأى فيه رجاحة العقل وغزارة العلم (قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) ذو مكانة وأمانة على كل شيء. ثم قال الملك ليوسف : أيها الصديق نقلوا لي ما قلته في تأويل رؤياي ، وأحب أن أسمع ذلك منك ، فشرع يوسف في وصف ما رأى الملك وشاهد فتعجب الملك ودهش ، ثم قال له يوسف : عليك أن تزرع كثيرا في السنوات المخصبة وتبني العديد من مخازن الحبوب ، فيأتيك الناس من كل صوب ، ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد. فقال الملك من لي بهذا؟
٥٥ ـ (قالَ) ـ يوسف ـ (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) أنا أيها الملك أنقذ البلاد من شر المجاعة المقبلة لخبرتي الاقتصادية وإخلاصي وأمانتي ، وكان يوسف قد مهد إلى الثقة به وبأمانته على أرواح العباد وأقوات البلاد ، بما طلبه من الملك من إعلان براءته على رؤوس الأشهاد كما سبقت الإشارة ، ولو لا هذا الإعلان لحاول حواشي الملك الطعن فيه كما هو المعتاد مستغلين الشبهة التي أدت إلى سجن يوسف حتى ولو كانت الشبهة كاذبة والسجن جورا وظلما ، فوافق الملك على اقتراح يوسف وجعله أمينا مطلقا على خزائن