لله سبحانه أحكام أبدية ، تبقى ما بقي الدهر ، لا يسوغ فيها النسخ والتغيير ولا التقليم والتطعيم ولا الخلاف والاجتهاد كالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ، والصوم والصلاة والحج والخمس والزكاة ، وأيضا له سبحانه أحكام أمدية لا أبدية ، تستدعي الحكمة أن يشرعها لأمد معين ، وأيضا تستدعي الحكمة أن لا يصرح سبحانه بهذا الأمد عند إنشاء الحكم حتى إذا انتهى الأمد ارتفع الحكم ، وشرع حكما آخر مكانه ، أيضا على وفق الحكمة والمصلحة ، ويسمى هذا نسخا ، وتقدم الكلام عنه في الآية ١٠٦ من البقرة (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) كان المشركون إذا رأوا نسخ حكم بآخر يقولون هذا افتراء على الله ، ولو كان من عنده ما تبدل وتغير ، بل هم الجاهلون المفترون.
١٠٢ ـ (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) وهو جبريل ، ولقّب بذلك لأنه نزل بقدس الأقداس ـ أي القرآن ـ على محمد (ص) (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) بالصدق والعدل والهدى والرحمة.
(لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) من الإيمان ما هو زعم ووهم ، يذهب مع الريح لأدنى عارض وطارئ ومنه ما هو أرسى من الجبال الراسيات ، وهو القائم على الفهم عن الله ورسوله كتابا وسنة (وَهُدىً) للتي هي أقوم (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) بأن لهم من الله أجرا كبيرا.
١٠٣ ـ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) قال الذين تنكروا لكل خير وحق وصدق : هذا القرآن تعلمه محمد من فلان الفلاني ، فرد سبحانه عليهم بقوله : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ...) المراد باللسان هنا اللغة والكلام ، وبالإلحاد النسبة والإسناد ، والمعنى : هذا القرآن عربي مبين ، والذين تسندون القرآن إليه يجهل اللغة العربية! فمن أين جاءته هذه المعجزة؟ وعلى قولكم هذا ينبغي أن يكون الأعجمي الذي تزعمون هو النبي. فلما ذا لا تتخذوه نبيا؟.
١٠٤ ـ (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) أي بالقرآن ونبوة محمد (ص) بعد الحجة الدامغة والبرهان القاطع ، أولئك (لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) أي لا يثبتهم بدليل قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
١٠٥ ـ (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) إن الكذب والافتراء بكم أليق وألصق أيها الجاحدون المعاندون ، لأنكم لا تؤمنون بحق ، ولا تنطقون بصدق. ولا تحفلون بخير ، أما محمد فهو أفضل وأكمل ما في البشرية من فضائل وأخلاق ١٠٦ ـ (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ، والدليل على هاتين الجملتين المحذوفين قوله تعالى في آخر الآية : (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) وعليه يكون (مَنْ كَفَرَ) مبتدأ وخبره محذوف تقديره فعليهم غضب من الله (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) قال المفسرون من السنة والشيعة : إن المشركين عذبوا عمار بن ياسر حتى يعطيهم من لسانه كلمة كافرة ، فتفوه بها مكرها. فقال بعضهم : يا رسول الله إن عمارا كفر : فقال الرسول (ص) : كلا ، إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، وجاء عمار إلى النبي (ص) باكيا ، فمسح عينيه وقال : مالك؟ إن عادوا فعد فنزلت (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ ...) وقال ابن كثير الشافعي الدمشقي في تفسير هذه الآية اتفق العلماء على أن المكره يسوغ له النطق بكلمة الكفر إبقاء على