وفي دلالتها على المقصود تأمل ، فإن المستفاد من صدرها وذيلها ان الأمر بالغسل والوضوء عند وجدان الماء ، والتيمم عند فقدانه ؛ انما هو لمصلحة تطهير النفوس ، أو هي والأبدان ، من الأقذار الباطنة والظاهرة ، فلا يريد الله تعالى بتشريع هذه التكاليف إلقاء الناس في مشقة وضيق بلا فائدة فيها ؛ بل انما يريد تطهيرهم بها ، فالمراد من «الحرج» هنا ليس مطلق المشقة بل المشاق الخالية عن الفائدة والمصالح العالية التي يرغب فيها لتحصيلها.
والشاهد على ذلك كلمة «لكن» الاستدراكية في قوله (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) بعد قوله (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) وان هو الا نظير قول القائل : «اشتر لي طعاما من ذاك المكان البعيد ما أريد لا جعلك بذلك في كلفة ومشقة وانما أريد تحصيل الطعام الطيب» فالمراد من الحرج هنا المشاق التي لا طائل تحتها ، ولا فائدة مهمة فيها تجبر كلفتها ، فلا يمكن التمسك بها لإثبات هذه القاعدة الكلية كما هو ظاهر.
وان شئت قلت : المقصود إثبات قاعدة كلية دافعة للتكاليف الحرجية يمكن التمسك بها في قبال العمومات المثبتة للتكاليف حتى في موارد العسر والحرج ، نظير إطلاقات وجوب الوضوء والغسل الشاملة لموارد الحرج.
ومن الواضح ان إطلاقات الأدلة الأولية كما تدل على ثبوت الحكم حتى في موارد العسر والحرج كذلك تدل على وجود مصالح في مواردها أو في نفس تلك الأحكام بالملازمة القطعية وح لا يمكن نفى هذه التكاليف في موارد الحرج بالاية الشريفة بناء على ما عرفت من ظهورها في نفى المشقة الخالية عن فائدة جابرة لها.
ومنها ـ قوله تعالى (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). (١)
وغاية ما يمكن ان يقال في تقريب دلالتها على المدعى هو ان الظاهر من قوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) بعد نفى وجوب الصيام عن طائفتين ، المسافرين والمرضى ، انه بمنزلة التعليل لهذا الحكم ، فيكون كسائر الكبريات
__________________
(١) سورة البقرة ـ الاية ـ ١٨٥.