ج : لتوضيح مراد الآية لابدّ من مقدّمات :
١ ـ أنّ الله تعالى له ملك السماوات والأرض ملكاً مطلقاً غير مقيّد من أي وجه من الوجوه ، ويلزمه كمال التسلّط.
وملك غيره تعالى محدود جدّاً بالحدود التي حدّها الله ، وبالمقدار الذي أذن الله به ، ومع ذلك لا يكون ملك الآخرين للأشياء منافياً ولا ملغياً لملكه ، لأنّه المملِّك لما يُمْلَك ، والمسلِّط على ما هو مُتَسَلَّط عليه.
فإنّ الإنسان إذا ملك دابّةً تسلّط على ركوبها ، والتصرّف بها بالمقدار الذي يعرفه العقلاء ، وهذا لا يلغي قدرة الله وتسلّطه عليه ، وعلى الدابة أبداً.
والإنسان في المثال لا يملك أن يغيّر ولا يبدّل في خلقتها ، ولا في زيادة قدرتها على الحمل والسرعة ، وأمثال ذلك.
٢ ـ أنّ الهداية والضلال أيضاً داخلة في ملكه ، ومن مظاهر سلطته ، لأنّ كلّ تصرّف من تصرّفات عباده ، وكلّ صفة من صفاتهم غير خارجة عن دائرة ملكه وقدرته.
٣ ـ أنّ ذلك لا ينافي اختيار العبد في الأفعال الاختيارية ، ولا يؤدّي إلى الوقوع في الجبر.
وأمّا تفصيل الموضوع ، فيحتاج إلى بيان أكثر ، والمطلب دقيق جدّاً.
فنحن لا نشكّ أنّ الله نصب نفسه في مقام التشريع ، وشرع لعباده شريعة ، وسنّ لهم قوانين كلّفهم بالالتزام بها ، ووعد المطيعين بالثواب ، وتوعّد العاصين بالعقاب ، فلو أجبرهم على الطاعات والمعاصي لم يكن الثواب في مورد الطاعة إلاّ جزافاً وعبثاً ، والعقاب في مورد المعصية إلاّ ظلماً ، وكلاهما محال على الله تعالى ، لأنّ حكمته وعدله تقتضيان عدم العبث وعدم الظلم.
فالتكليف غير مبني على الإجبار ، وهو متوجّه إلى العباد من حيث أنّهم مختارون في الفعل والترك ، والمكلّفون إنّما يثابون ويعاقبون بما كسبت أيديهم من خير وشر.