لأمثاله ، وهي البيعة ليزيد ؛ فإنّ فيها خير الدِّين والدنيا ، فاسترجع الحسين وقال : «على الإسلام السّلام ؛ إذا بليت الاُمّة براع مثل يزيد ، ولقد سمعت جدّي رسول الله (ص) يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان (١) ، فاذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه ، وقد رآه أهل المدينة على المنبر فلم يبقروا فابتلاهم الله بيزيد الفاسق» ، وطال الحديث بينهما حتّى انصرف مروان مغضباً (٢).
وفي الليلة الثانية جاء الحسين إلى قبر جدّه ، وصلّى ركعات ثم قال : «اللهمّ ، إنّ هذا قبر نبيّك محمّد (ص) وأنا ابن بنت نبيّك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت ، اللهمّ إنّي اُحبّ المعروف واُنكِر المنكر ، وأسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ القبر ومَن فيه إلا اخترت لي ما هو لك رضىً ولرسولك رضىً» ، وبكى.
ولمّا كان قريباً من الصبح وضع رأسه على القبر فغفا ، فرأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في كتيبة من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يدَيه ، فضمّ الحسين إلى صدره وقبَّل ما بين عينيه ، وقال : حبيبي يا حسين ، كأنّي أراك عن قريب مرمّلاً بدمائك ، مذبوحاً بأرض كربلا بين عصابة من اُمّتي ، وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى ، وظمآن لا تروى ، وهم بعد ذلك يرجون شفاعتي ، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة! حبيبي يا حسين ، إنّ أباك واُمّك وأخاك قدموا عليَّ وهم مشتاقون إليك. فبكى الحسين وسأل جدّه أنْ يأخذه معه ويدخله في قبره.
ولكن الرسول الأقدس أبى إلا أنْ يمضي ولده على حال أربى في نيل الجزاء وآثر عند الجليل سبحانه يوم الخصام فقال (ص) : لابد أنْ ترزق الشهادة ؛ ليكون لك ما كتب الله فيها من الثواب العظيم ، فانّك وأباك وعمّك وعمّ أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتّى تدخلوا الجنّة.
فانتبه الحسين وقصّ رؤياه على أهل بيته فاشتد حزنهم وكثر بكاؤهم (٣)
__________________
(١) اللهوف ص ١٣ ، ومثير الأحزان ص ١٠.
(٢) مقتل الحوارزمي ١ ص ١٨٥ ، الفصل التاسع.
(٣) مقتل العوام ص ٥٤ ، عن محمّد بن أبي طالب ، وهذا التذمّر بيان لمقتضى الحال وتعليم للاُمّة بأنّ في مشاهدة تلكم الأحوال من تداول المنكرات وإزهاق المعروف ممّا يستهان معه الموت ، وذلك بقضاء من الشهامة والتعرّق في الدين ، ولم يكن هذا من سيّد الشهداء نكوصاً عن الأفضل ولا جزعاً ـ وحاشاه ـ ممّا قدّر له ورضى به ، وأخذ عليه العهد والمواثيق المؤكّدة وهو جدّ عليم بأنّه لابدّ من وقوع ما جرت به المقادير ، لكنّ أبي الضيم حسب أنّ دعاء جدّه (ص) بغير القضاء فعرفه صاحب الدّعوة الإلهيّة أنّ الله تعالى أجرى قضاءه بإعطائه منازل لا تحصّل إلا مع الشهادة. وفي كلّ حرف من قضيّة السّبط الشهيد دروس راقية ، وهل في الاُمّة مَن يعتبر بها أو يدرسها؟