يروي الثرى بدمائهم وحشاه من |
|
ظمأ تطاير شعلة قطعاتها |
لَو قلبت من فوق غلّة قلبه |
|
صمّ الصفا ذابت عليه صفاتها |
تبكي السّماء له دماً أفلا بكت |
|
ماء لغلّة قلبه قطراتها |
وآ حرّ قلبي يابن بنت محمّد |
|
لك والعدى بك أنجحت طلباتها |
منعتك من نيل الفرات فلا هنا |
|
للنّاس بعدك نِيلها وفراتها (١) |
الوداع الثاني
ثمّ إنّه (عليه السّلام) ودّع عياله ثانياً ، وأمرهم بالصبر ولبس الأزر وقال : «استعدّوا للبلاء ، واعلموا أنّ الله تعالى حاميكم وحافظكم ، وسينجيكم من شرّ الأعداء ، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ، ويعذِّب عدوّكم بأنواع العذاب ، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النّعم والكرامة ، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم» (٢).
حقاً لو قيل بأنّ هذا الموقف من أعظم ما لا قاه سيّد الشهداء في هذا اليوم (٣) ؛ فإنّ عقائل النبوّة تشاهد عماد أخبيتها وسياج صونها وحمى عزّها ومعقد شرفها مؤذناً بفراق لا رجوع بعده ، فلا يدرين بمَن يعتصمن من عادية الأعداء ، وبمَن
__________________
يعمل إلاّ بما تلقّاه من جدّه الذي لا ينطق عن الهوى ، وكلّ قضايا الطفّ محدودة الظرف والمكان ؛ لأسرار ومصالح لا يعلمها إلاّ ربّ العالمين تعالى شأنه.
وهناك شيء آخر لاحظه سيّد الشهداء وكانت العرب تتفانى دونه ، وهو حماية الحرم بأنفس الذخائر ، وأبو عبد الله سيّد العرب وابن سيّدها فلا تفوته هذه الخصلة التي يستهلك دونها النّفس والنّفيس. ولمّا ناداه الرجل هتكت الحرم لَم يشرب الماء ؛ إعلاماً للجمع بما يحمله من الغيرة على حرمه ، ولَو لَم يبال بالنداء لتيقّن النّاس فقدانه الحميّة العربيّة ولا يقدم عليه أبي الضيم حتّى لو علم بكذب النّداء ، وفعل سيّد الإباة من عدم شرب الماء ولَو في آن يسير هو غاية ما يمدح به الرجل.
(١) من قصيدة لآية الله الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء رحمه الله.
(٢) جلا العيون للمجلسي بالفارسيّة ، وهنا شيء لَم يتنبّه له أحد وهي إرادة بيان أمرَين ؛ عدم القتل ، وعدم السّلب. فإنّ تعليل لبس الأزر بالحماية والمحافظة مع أنّ أحدهما كافٍ في التعريف بأنّ اليد العادية لا تمدّ إليهم ، يكون الإتيان بهما مع بعد غرض بلوغه أعلى مراتب البلاغة دليل على أنّ المقصود من أحدهما بيان عدم السّلب ، ومن الثاني عدم القتل.
(٣) هذا هو الظاهر من وصيّة الصدّيقة الزهراء (عليها السّلام) للمجلسي أعلى الله مقامه بقراءته مصيبة ولدها عند الوداع. كما ذكره النوري في دار السّلام المجلّد الأول.