ثمّ حمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وآله وقال :
«أمّا بعد ، فقد نزل من الأمر ما قد ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت ، وأدبر معروفها ، ولَم يبقَ منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمَل به وإلى الباطل لا يُتَناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله. فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما» (١).
فقام زهير وقال : سمعنا يابن رسول الله مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا فيها مخلّدين لآثرنا النّهوض معك على الإقامة فيها.
وقال بريد : يابن رسول الله ، لقد منّ الله بك علينا ؛ أنْ نقاتل بين يدَيك ، تُقَطَّع فيك أعضاؤنا ، ثمّ يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة (٢).
وقال نافع بن هلال : أنت تعلم أنّ جدّك رسول الله لَم يقدر أنْ يشرب النّاس محبّته ، ولا أنْ يرجعوا إلى أمره ما أحبّ ، وقد كان منهم منافقون يعِدونه بالنصر ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلى من العسل ويخلّفونه بأمَرّ من الحنظل حتّى قبضه الله إليه ، وإنّ أباك علياً كان في مثل ذلك فقوم قد أجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين حتّى أتاه أجله فمضى إلى رحمة الله ورضوانه ، وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمَن نكث عهده وخلع بيعته فلَن يضرّ إلاّ نفسه والله مغن عنه ، فسِر بنا راشداً معافى مشرِّقاً إنْ شئت أو
__________________
يتطير) ، وهذا باب من الاسئلة يعرف عند علماء البلاغة (بتجاهل العارف) وإذا كان فاطر الأشياء الذي لا يغادر علمه صغيراً ولا كبيراً يقول لموسى (عليه السلام) : (وما تلك بيمينك يا موسى) ويقول لعيسى (عليه السلام) : (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين) لضرب من المصلحة وقال سبحانه للخليل (عليه السلام) أو لم تؤمن؟ مع انه عالم بايمانه فالامام المنصوب من قبله أميناً على شرعه لا تخفى عليه المصالح.
كما ان سيد الشهداء (عليه السلام) لم يكن في تعوذه من الكرب والبلاء عندما سمع باسم كربلاء متطيراً ، فان المتطير لا يعلم ما يرد عليه وإنما يستكشف ذلك من الاشياء المعروفة عند العرب انها سبب للشر ، والحسين (عليه السلام) على يقين مما ينزل به في أرض الطف من قضاء الله ، فهو عالم بالكرب الذي يحل به وباهل بيته وصحبه كما انبأ عنه غير مرة.
(١) هذا في اللهوف ، وعند الطبري ج ٦ ص ٢٢٩ : انه خطب به بذي حسم ، وفي العقد الفريد ج ٢ ص ٣١٢ وحلية الأولياء ج ٣ ص ٣٩ وابن عساكر ج ٤ ص ٣٣٣ مثل اللهوف ، وفي مجمع الزوائد ج ١ ص ١٩٢ وذخائر العقبى ص ١٤٩ والعقد الفريد ج ٢ ص ٣١٢ : يظهر منه انه خطب ذلك يوم عاشوراء وفي سير أعلام النبلاء للذهبي ج ٣ ص ٢٠٩ : لما نزل عمر بن سعد بالحسين خطب أصحابه.
(٢) اللهوف ص ٤٤.