وأمّا ما ورد عنهم (عليهم السّلام) من نفي علمهم بالغيب ، كقول أبي عبد الله (ع) : «يا عجباً لأقوام يزعمون إنّا نعلم الغيب! ما يعلم الغيب إلا الله. لقد هممت بضرب جاريتي فهربت مني ، ماعلمت في أي بيوت الدار» (١) ، فمحمول على التقية ؛ لحضور المجلس داود الرّقي ويحيى البزّاز وأبي بصير ، ولم تكن لهم قابلية تحمل غامض علم أهل البيت (عليهم السّلام) ، فأراد أبو عبد الله بنفي علم الغيب عنهم ؛ تثبيتاً لعقيدة هؤلاء. ويؤيده أن سديراً الراوي لهذا الحديث ، دخل عليه في وقت آخر ، وذكر له استغراب ما سمعه منه من نفي علم الغيب ، فطمأنه بأنه يعلم ما هو ارقى من ذلك ، وهو العلم بالكتاب كلِّه وما حواه من فنون المعارف وأسرارها ، على أن هذا الحديث لم يعبأ به المجلسي في مرآة العقول لجهالة رواته. ويحتمل أن يريد بنفي العلم بمكان الجارية ، الرؤية البصرية لا الانكشاف الواقعي. فقوله (ع) : «ما علمت» ، أي ما رأيتها بعيني في أي بيت دخلت ، وإلا فمن يقول في صفة علمه : «لم يفتني ما سبقني ، ولم يعزب عني ما غاب عني» لا يخفى عليه أمر الجارية!.
ولما طرق (مبشر) الباب على الباقر (ع) وخرجت الجارية تفتحه ، قبض على كفها ، فصاح به أبو جعفر (ع) من داخل الدار : «ادخل ، لا أبا لك» ، فدخل مبشر معتذراً بأنه لم يرد السوء ، وإنما أراد الازدياد ، فقال له الامام (ع) : «لو كانت الجدران تحجبنا كما تحجبكم ، لكنّا وانتم سواء» (٢). وقال الامام (ع) لمحمد بن مسلم : «لو لم نعلم ما انتم فيه وعليه ، ما كان لنا على الناس فضل» ، ثم استدل عليه بما وقع في الرَّبَذة بينه وبين زميله في أمر الإمامة (٣).
وأمّا الحكاية عن النبي (ص) : (لَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ) ، فلا تفيد إلا كونه مفتقراً إلى الله تعالى في التعليم ، وأنه لم يكن عالماً بالغيب من تلقاء نفسه. وهذا لا ريب فيه ، فإنّ المعتقَد : إنّ الله تعالى هو المتلطّف على النبيّ وأبنائه (عليهم السّلام) بالملكة القدسيّة ، التي تمكّنوا بواسطتها من استكشاف ما في الكون (٤).
__________________
(١) بصائر الدرجات ص ٥٧ ، ٦٢ ، واصول الكافي على هامش مرآة العقول ١ ص ١٨٦.
(٢) مناقب آل ابي طالب ٢ ص ٢٧٤ ، وبحار الانوار ١١ ص ٧٠ عن أبي الصباح الكناني.
(٣) بحار الانوار ١١ ص ٧٢ عن الخرائج.
(٤) في شرح الشفا للخفاجي ٢ ص ١٥٠ : إنّ المنفي في الآيات هو اطّلاعه على الغيب من غير وساطة ، وأمّا علمه بالغيب بإعلام الله تعالى له ، فثابت ومتحقق ؛ لقوله تعالى : (فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ).