ولمّا ذكر سبحانه ما أعدّه في الآخرة للكافرين ، عقّبه بذكر ما وعده للمتّقين ، فقال :
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : في الآخرة ، أو في جوار القدس (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) جنّات ليس فيها إلّا التنعّم الخالص.
روي : أنّ المجرمين كانوا يقولون : إن صحّ أنّا نبعث كما يزعم محمّد ومن معه لم يفضلونا ، بل نكون أحسن حالا منهم كما نحن عليه في الدنيا. فأنكر الله تعالى ذلك عليهم بقوله : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) أي : لا نجعل المسلمين كالمشركين في الجزاء والثواب.
(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) التفات فيه تعجّب من حكمهم ، وتهجين وتوبيخ لهم ، واستبعاد له ، وإشعار بأنّ هذا من اختلال فكرهم واعوجاج رأيهم. ومعناه : أيّ شيء يحملكم على تفضيل الكفّار حتّى صار سببا لإصراركم على الكفر؟ ولا يحسن في الحكمة التسوية بين الأولياء والأعداء في دار الجزاء ، فضلا عن تفضيل الأعداء على الأولياء.
(أَمْ لَكُمْ كِتابٌ) من السماء (فِيهِ تَدْرُسُونَ) تقرءون. (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) إنّ لكم ما تختارونه وتشتهونه. يقال : تخيّر الشيء واختاره ، أخذ خيره.
ونحوه : تنخّله وانتخله (١) إذا أخذ من خوله. وأصل الكلام : تدرسون أنّ لكم ما تتخيّرون ، بفتح «أنّ» لأنّه المدروس ، فلمّا جيء باللام كسرت. ويجوز أن يكون حكاية للمدروس ، كقوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلى نُوحٍ) (٢) أو استئنافا.
(أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا) عهود مؤكّدة بالأيمان (بالِغَةٌ) متناهية في التوكيد.
__________________
(١) تنخّل وانتخل الشيء : صفّاه واختاره وأخذ أفضله.
(٢) الصافّات : ٧٨ ـ ٧٩.