(جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) أي : سدّوا أسماعهم عن استماع الدعوة (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) تغطّوا بها لئلّا يروني. والتعبير بصيغة الطلب للمبالغة ، كأنّهم طلبوا أن تغشاهم ثيابهم أو تغشّيهم لئلّا يبصروه ، كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله. وقيل : لئلّا يعرفهم. ويعضده قوله : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) (١).
(وَأَصَرُّوا) وأكبّوا على الكفر والمعاصي. مستعار من : أصرّ الحمار على العانة إذا صرّ (٢) أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها ، للإقبال على المعاصي والإكباب عليها. (وَاسْتَكْبَرُوا) عن اتّباعي (اسْتِكْباراً) عظيما ، أي : أخذتهم العزّة من اتّباعي وطاعتي. وفي ذكر المصدر تأكيد ودلالة على فرط استكبارهم وعتوّهم.
قيل : إنّ الرجل منهم كان يذهب بابنه إلى نوح فيقول له : احذر هذا لا يغوينّك ، فإنّ أبي قد ذهب بي إليه وأنا مثلك ، فحذّرني مثل ما حذّرتك.
(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي : دعوتهم مرّة بعد اخرى وكرّة بعد أولى ، على أيّ وجه أمكنني. وقد فعل نوح عليهالسلام كما يفعل الّذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، في الابتداء بالأهون ، والترقّي في الأشدّ فالأشدّ. فافتتح بالمناصحة في السرّ ، فلمّا لم يقبلوا ثنّى بالمجاهرة ، فلمّا لم تؤثّر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان. ومعنى «ثمّ» الدلالة على تباعد الأحوال ، لأنّ الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.
و «جهارا» منصوب بـ «دعوتهم» نصب المصدر ، لأنّ الدعاء أحد نوعيه
__________________
(١) هود : ٥.
(٢) العانة : القطيع من حمر الوحش. صرّ الفرس أذنه : سوّاها ونصبها للاستماع. وكدم كدما : عضّ بمقدّم فمه.