فإن قيل : فلو صحّ الخبر الأوّل هل يكون العبوس ذنبا أم لا؟
فالجواب : أنّ العبوس والانبساط مع الأعمى سواء ، إذ لا يشقّ عليه ذلك ، فلا يكون ذنبا. فيجوز أن يكون عاتب الله سبحانه بذلك نبيّه ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق ، وينبّهه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد ، ويعرّفه أنّ تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعا في إيمانه.
وقال الجبائي : في هذا دلالة على أنّ الفعل يكون معصية فيما بعد ، لمكان النهي. فأمّا في الماضي فلا يدلّ على أنّه كان معصية قبل أن ينهى عنه ، والله سبحانه لم ينبّهه إلّا في هذا الوقت.
وقيل : إنّ ما فعله الأعمى كان نوعا من سوء الأدب ، فحسن تأديبه بالإعراض عنه ، إلّا أنّه كان يجوز أن يتوهّم أنّه إنّما أعرض عنه لفقره ، وأقبل عليهم لرئاستهم تعظيما لهم ، فعاتبه الله سبحانه على ذلك» (١) انتهى كلامه.
وأنا أقول : ما روي عن الصادق عليهالسلام أنّه «كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا رأى عبد الله بن أمّ مكتوم قال : مرحبا مرحبا لا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا» لا يدلّ على أنّ العابس والمتولّي عن الأعمى هو النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لجواز أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا نزلت الآيات في معاتبة الرجل المذكور فيما فعل بالأعمى عرف حال الأعمى ومكانته عند الله ، فقال ذلك إجلالا وتعظيما له ، وزجرا لنفسه عن أن يصدر منه ما صدر من الرجل المذكور.
(كَلَّا) ردع عن المعاتب عليه ، أو عن معاودة مثله. والمعنى : انزجر عن مثل ذلك ، ولا تعد لذلك. وفي هذا الردع دلالة على أنّه ليس له أن يفعل ذلك في المستقبل ، وأمّا الماضي فلمّا لم يتقدّم النهي عن ذلك فيه فلا يكون معصية. (إِنَّها تَذْكِرَةٌ)
__________________
(١) تنزيه الأنبياء : ١١٨ ـ ١١٩.