واعلم أنّ واو القسم مطّرح معها إبراز الفعل إطّراحا كلّيّا ، فكان لها شأن خلاف شأن الباء ، حيث أبرز معها الفعل وأضمر. فكانت الواو قائمة مقام الفعل ، والباء سادّة مسدّهما معا ، والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو. فهنّ عوامل عمل الفعل والجارّ جميعا ، كما تقول : ضرب زيد عمرا وبكر خالدا ، فترفع بالواو وتنصب ، لقيامها مقام «ضرب» الّذي هو عاملهما ، من غير لزوم عطف على عاملين مختلفين ، وهما : واو القسم وفعله ، كما في قولك : مررت أمس بزيد ، واليوم عمرو. وإمّا أن تجعلهنّ للقسم ، فتقع فيما اتّفق الخليل وسيبويه على استكراهه ، لأنّه محتاج إلى حرف العطف.
(وَالسَّماءِ وَما بَناها) أي : من رفعها على وجه الاتّساق والانتظام. وإنّما أوثرت على «من» لإرادة معنى الوصفيّة. كأنّه قيل : والسماء ، والقادر العظيم القدرة الّذي بناها. ولذلك أفرد ذكره. وكذا الكلام في قوله : (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) أي : والحكيم الباهر الحكمة الّذي بسط الأرض ، وسوّى أعضاء النفس على أعدل وجه.
وجعل الماءات مصدريّة يجرّد الفعل عن الفاعل ، ويخلّ بنظم قوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها).
وتنكير «نفس» للتكثير ، كما في قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) (١). أو للتعظيم.
والمراد : نفس آدم. والإلهام بالفجور والتقوى إفهامهما ، وتعريف حالهما بأنّ أحدهما حسن والآخر قبيح ، ليفعل الطاعة ويذر المعصية. أو التمكين من اختيار ما شاء منهما ، بدليل قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أنماها بالعلم بالمعارف الإلهيّة والأعمال الصالحة ، فإنّ التزكية الإنماء والإعلاء بالتقوى. وهو جواب القسم.
وحذف اللام للطول. ولعلّه لمّا أراد به الحثّ على تكميل النفس والمبالغة فيه ، أقسم
__________________
(١) التكوير : ١٤.