وقدّم الكفر لأنّه الأغلب عليهم والأكثر فيهم.
وقيل : هو الّذي خلقكم ، فمنكم كافر بالخلق وهم الدهريّة ، ومنكم مؤمن به.
ولا يجوز حمل الكلام على أنّ الله سبحانه خلقهم مؤمنين وكافرين كما هو مذهب الأشاعرة ، لأنّه لم يقل كذلك ، بل أضاف الكفر والإيمان إليهم وإلى فعلهم ، ولذلك يصحّ الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، وبعثة الأنبياء. على أنّ الله سبحانه لو جاز أن يخلق الكفر والقبائح لجاز أن يبعث رسولا يدعو إلى الكفر والضلال ، ويؤيّده بالمعجزات ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. هذا وقد قال سبحانه : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (١). وقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «كلّ مولود يولد على الفطرة ، وإنّما أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه».
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم حكاية عن الله سبحانه : «خلقت عبادي كلّهم حنفاء».
ونحو ذلك من الأخبار كثير.
إن قيل : سلّمنا أنّ العباد هم الفاعلون للكفر ، ولكن قد سبق في علم الله الحكيم أنّه إذا خلقهم لم يفعلوا إلّا الكفر ، ولم يختاروا غيره ، فما دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم؟ وهل خلق القبيح وخلق فاعل القبيح إلّا واحد؟ وهل مثله إلّا مثل من وهب سيفا باترا (٢) لمن شهر بقطع السبيل وقتل النفس المحرّمة ، فقتل به مؤمنا؟ أما يطبق العقلاء على ذمّ الواهب للسيف وتعنيفه كما يذمّون القاتل؟
بل قصدهم باللوائم على الواهب أشدّ؟
قلنا : قد علمنا أنّ الله حكيم ، عالم بقبح القبيح ، عالم بغناه عنه ، فقد علمنا أنّ أفعاله كلّها حسنة ، وخلق فاعل القبيح فعله ، فوجب أن يكون حسنا ، وأن يكون له وجه حسن. وخفاء وجه الحسن علينا لا يقدح في حسنه ، كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته جهلنا بداعي الحكمة إلى خلقها.
__________________
(١) الروم : ٣٠.
(٢) أي : قاطعا.