ويدلّ على حسن أفعاله قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) بالحكمة البالغة والغرض الصحيح ، وهو أن جعلها مقارّ المكلّفين ومقابرهم ، ليعلموا ويعملوا فيجازيهم (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فجعلكم أحسن الحيوان كلّه وأبهاه ، بدليل أنّ الإنسان لا يتمنّى أن تكون صورته على خلاف ما يرى في سائر الصور ، ومن حسن صورته أنّه خلق منتصبا غير منكب ، وزيّنه بصفوة أوصاف الكائنات ، وخصّه بخلاصة خصائص المبدعات ، وجعله أنموذج جميع المخلوقات. ولا ينافيه أنّ في جملتهم من هو مشوّه الصورة سمج الخلقة ، لأنّ الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب ، فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطا بيّنا لا يخرج عن حدّ الحسن لا تستملح. ألا ترى أنّك قد تعجب بصورة وتستملحها ، ثمّ ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن ، فينبو عن الأولى طرفك ، وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها. وقالت الحكماء : شيئان لا غاية لهما : الجمال ، والبيان.
(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) نبّه بعلمه ما في السّماوات والأرض ، ثمّ بعلمه ما يسرّه العباد ويعلنونه ، ثمّ بعلمه ذوات الصدور ، أن لا شيء من الكلّيّات والجزئيّات خاف عليه ولا عازب عنه ، فحقّه أن يتّقى ويحذر ، ولا يجترأ على شيء ممّا يخالف رضاه.
وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد. وكلّ ما ذكره بعد قوله : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) كما ترى في معنى الوعيد على الكفر ، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته. فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ، ويجعله من جملته ، والخلق أعظم نعمة من الله على عباده ، والكفر أعظم كفران من العباد لربّهم.
وتقديم تقرير القدرة على العلم ، لأنّ دلالة المخلوقات على قدرته أوّلا وبالذات ، وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء.