هات ويحك ، قال : اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك ، فقلتَ : عليٌّ معه الآخرة في غير دنيا ، وفي الآخرة عوض من الدنيا. ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة ، وليس في الدنيا عوض من الآخرة ، فأنت واقفٌ بينهما.
قال : فإنّك والله ما أخطأت ، فما ترى يا وردان؟ قال : أرى أن تقيم في بيتك ، فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم ، وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك. قال : الآن لمّا شهدت العرب مسيري إلى معاوية ، فارتحل وهو يقول :
يا قاتلَ اللهُ ورداناً وفطنَتهُ |
|
أبدى لَعَمْرُكَ ما في النفسِ وردانُ |
لمّا تعرّضتِ الدنيا عرضتُ لها |
|
بحرص نفسي وفي الأطباع إدهانُ |
نفسٌ تَعِفُّ وأخرى الحرصُ يقلبُها (١) |
|
والمرء يأكلُ تِبناً وهو غَرثانُ (٢) |
أمّا عليٌّ فدينٌ ليس يَشرَكُهُ |
|
دنيا وذاك له دنياً وسلطانُ |
فاخترتُ من طمعي دنياً على بصرٍ |
|
وما معي بالذي أختار برهانُ |
إنّي لأعرفُ ما فيها وأُبصرُهُ |
|
وفيَّ أيضاً لما أهواهُ ألوانُ |
لكنَّ نفسي تُحبُ العيشَ في شَرَفٍ |
|
وليس يرضى بذُلِّ العيش إنسانُ |
عمروٌ لعمرُ أبيه غيرُ مُشتبهٍ |
|
والمرءُ يعطسُ والوَسنان وسنانُ |
فسار حتى قدم على معاوية ، وعرف حاجة معاوية إليه ، فباعده من نفسه ، وكايد كلُّ واحد منهما صاحبه.
فلمّا دخل عليه قال : يا أبا عبد الله طَرَقَتْنا في ليلتنا هذه ثلاثة أخبار ليس فيها وِرْدٌ ولا صدرٌ. قال : وما ذاك؟ قال : ذاك أنّ محمد بن أبي حذيفة قد كسر سجن مصر ، فخرج هو وأصحابه ، وهو من آفات هذا الدين. ومنها أنّ قيصر زحف بجماعة الروم إليَّ ليتغلّب على الشام. ومنها : أنّ عليّا نزل الكوفة متهيِّئاً للمسير إلينا.
__________________
(١) في شرح ابن أبي الحديد [٢ / ٦٣ خطبة ٢٦] : يغلبها. (المؤلف)
(٢) غرث غرثاً : جاع. فهو غرثان. والجمع غرثى وغراث وغراثى. (المؤلف)