حال الأهل من حيث هم هم ، ولا يكون للقرية أثر في ذلك. ونحن نجد بقية الكلام مشيرا إلى القرية نفسها ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَوَجَدا فِيها) [الكهف : ٧٧] ، ولم يقل : عندهم ، وأن الجدار الذي قصد إصلاحه وحفظ ما تحته جزء من قرية مذمومة مذموم أهلها ، وقد تقدّم منهم سوء صنيع من الآباء عن حقّ الضيف مع طلبه. وللبقاع تأثير في الطباع ، فكانت هذه القرية حقيقة بالإفساد والإضاعة ، فقوبلت بالإصلاح لمجرد الطاعة ، فلم يقصد إلّا العمل الصالح ، ولا مؤاخذة بفعل الأهل الذين منهم غاد ورائح ، فلذلك قلت : إن الجملة يتعيّن من جهة المعنى جعلها صفة لقرية ، ويجب معها الإظهار دون الإضمار.
وينضاف إلى ذلك من الفوائد أنّ الأهل الثاني يحتمل أن يكونوا هم الأول أو غيرهم ، أو منهم ومن غيرهم ، والغالب أنّ من أتى قرية لا يجد جملة أهلها دفعة ، بل يقع بصره أولا على بعضهم ، ثم قد يستقرئهم ، فلعلّ هذين العبدين الصالحين لما أتيا قدّر الله لهما ، لما يظهر من حسن صنيعه استقراء جميع أهلها على التدريج ، ليبيّن به كمال رحمته ، وعدم مؤاخذته بسوء صنيع بعض عباده. ولو أعاد الضمير فقال : «استطعماهم» ، تعيّن أن يكون المراد الأولين لا غير ، فأتى بالظاهر إشعارا بتأكيد العموم فيه ، وأنّهما لم يتركا أحدا من أهلها حتى استطعماه وأبى ، ومع ذلك قابلاهم بأحسن الجزاء. فانظر إلى هذه المعاني والأسرار كيف غابت عن كثير من المفسرين ، واحتجبت تحت الأستار ، حتى ادّعى بعضهم أنّ ذلك تأكيد ، وادّعى بعضهم غير ذلك ، وترك كثير التعرّض لذلك رأسا.
وبلغني عن شخص أنّه قال : إنّ اجتماع الضميرين في كلمة واحدة مستثقل ، فذلك لم يقل : «استطعماهم». وهذا شيء لم يقله أحد من النّحاة ولا له دليل ، والقرآن والكلام الفصيح ممتلئ بخلافه ، وقد قال تعالى في بقيّة الآية : «يضيّفوهما» ، وقال تعالى : (فَخانَتاهُما) [التحريم : ١٠] ، وقال تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَنا) [الزخرف : ٣٨] في قراءة الحرميّين وابن عامر (١). وألف موضع هكذا ، فهذا القول ليس بشيء ، وليس هو قولا حتّى يحكى ، وإنّما لمّا قيل نبّهت على ردّه. ومن تمام الكلام في ذلك أنّ «استطعما» إذا جعل جوابا فهو متأخّر عن الإتيان ، وإذا جعل صفة احتمل أن يكون اتّفق قبل الإتيان هذه المرّة ، وذكر تعريفا وتنبيها على أنّه لم يحملهما على عدم الإتيان لقصد الخير. وقوله : «فوجدا» معطوف على «أتيا».
فهذا ما فتح الله عليّ ، والشّعر يضيق عن الجواب ، وقد قلت : [الطويل]
__________________
(١) انظر تيسير الداني (ص ١٥٩).