ثانيه في كبد السّماء ولم يكن |
|
كاثنين ثان إذ هما في الغار |
قال الصّفدي : «قد غلط أبو تمّام في هذا التّركيب ، لأنّه إنّما يقال : ثاني اثنين ، وثالث ثلاثة ورابع أربعة ، ولا يقال : اثنين ثان ، ولا ثلاثة ثالث ، ولا أربعة رابع». ولمّا وقف المملوك على هذا التّغليط استبعد وقوع مثله من أبي تمّام ، وخاض فكره في الجواب وعام. وخطر للمملوك أنّ المراد غير ما فهمه الصفدي ، وقصد عرض ذلك على من من علومه نقتبس وبكلامه نقتدي ، وهو أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا وتقليبا للتّركيب وتغييرا ، وهو أنّ التقدير : ولم يكن كاثنين إذ هما في الغار ثان وبذلك يدفع عن كلامه الغلط ويصان ، والمراد أنّه لم يكن كهذه القضية قضية أخرى. وكلام أبي تمّام بهذا المعنى أحرى ، وحصل هذا القلب مراعاة للقافية. ولا تسكن النّفوس لهذا الجواب إلّا بطبّكم منه الشفاء والعافية ، ولم يعرّج أبو تمّام على مراعاة الآية (١) حتّى ينسب كلامه إلى الغلط الواضح الأولي البداية. وإيضاحه أنّه لم يوجد كحال اثنين إذ هما في الغار حال ثان. والمسؤول إيضاح ما في هذا التّغليط والتصويب من المعاني أدام الله لكم المعالي وأجزل عليكم الفضل المتوالي.
فكتب إليه البدر الكلستاني مجيبا ما نصه :
أتتني أبيات تموج بلاغة |
|
وفيها على بحر العلوم دلائل |
ونظّمها صدر الزّمان وعينه |
|
جلال المعاني ، والمعالي جلائل |
هو الحبر تجل الحبر حاو وجيزه |
|
بسيط المعاني للفضائل شامل |
إذا هزّ أقلام الفصاحة تنجلي |
|
مسائل فيها من فنون مسائل |
ومالك فقه الشّافعيّ بأسره |
|
أصولا فروعا واحد لا يشاكل |
ونادى له في كلّ ناد خصاله |
|
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل |
له المقول الوضّاح في كلّ معضل |
|
وفضّاح نفس يوم تأتي تجادل |
أتاني ما أتحف به ملك البلاغة ومالك المعاني ، فأطربني بنسيج وحده وأغناني عن المثالث والمثاني ، أوفى الله كاسه ، وطيّب أنفاسه. أمّا الصّفديّ المغلّط فغالط في واضح ، واعتراضه فاضح ، وقد صفّد ناقص ذهنه عند الكلام في حلّ تركيب أستاذ الأدباء أبي تمّام ، حيث لم يفرّق بين : «كاثنين ثان» وبين «كثاني اثنين». والفرق ظاهر عند سمع عار عن الآفة ، إذ الأوّل تركيب جملة ، والثاني تركيب إضافة ، وظهور
__________________
(١) يريد قوله تعالى في سورة التوبة الآية (٤١) (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ.)