من مثل القرآن ما يصدق عليه أنه مثل القرآن ، أيّ قدر كان سورة أو أقل منها أو أكثر ، وإذا أراد المتحدّي الجمع بين قوله : بسورة وبين قوله : من مثله فحقّ الكلام أن يقدّم «من مثله» ويؤخّر «بسورة» ، ويقول : فأتوا من مثله بسورة ، حتى يتعلّق الأمر بالإتيان من المثل أوّلا بطريق العموم وكان بحيث لو اكتفى به لكان المقصود حاصلا والكلام مفيدا ، لكن تبرّع ببيان قدر المأتيّ به فقال : بسورة ، فيكون من قبيل التخصيص بعد التعميم في الكلام والتبيين بعد الإبهام في المقام ، وهذا الأسلوب ممّا يعتني به البلغاء ، وأمّا إذا قال : فأتوا بسورة من مثله على أن يكون «من مثله» متعلّقا ب (فأتوا) فإنه يكون في الكلام حشو وذلك لأنه لمّا قال : بسورة عرف أنّ المثل هو المأتي منه فذكر من مثله على أن يكون متعلقا ب (فأتوا) يكون حشوا ، وكلام الله منزّه عن هذا ، فلهذا حكم بأنه وصف للسورة.
وتلخيص الكلام أنّ التحدّي بمثل هذه العبارة على أربعة أساليب : الأول : تعيين المأتي به فقط ، الثاني : تعيين المأتي منه فقط ، الثالث : الجمع بينهما على أن يكون المأتي منه مقدّما والمأتيّ به مؤخرا ، الرابع : العكس ، ولا يخفى على من له بصيرة في تنفيذ الكلام أنّ الأساليب الثلاثة الأول مقبولة عند البلغاء ، والأخير مردود ، لأنه يبقى ذكر المأتي منه بعد ذكر المأتي به حشوا ، هذا إذا جعل المأتي منه مفهوم المثل ، وأمّا إذا كان المأتيّ منه مكانا أو شخصا أو شيئا آخر ممّا لا يدلّ عليه التحدي فذكره مفيد قدّم أو أخّر ، ولذلك جوّز العلّامة صاحب (الكشاف) أن يكون (مِنْ مِثْلِهِ) متعلّقا ب (فأتوا) حيث كان الضمير راجعا إلى عبدنا.
والحاصل أنّه إذا جعل المثل المأتي منه مفهوم المثل وأريد الجمع بين المأتي منه والمأتي به فلا بدّ من تقديم المأتي منه على المأتي به ، وإلا يكن الكلام ركيكا ، وإذا كان المأتي منه شيئا آخر فالتقديم والتأخير سواء ، وممّا يؤيّد هذا المعنى ما أفاده المحقّقون في قول القائل عند خروجه من بستان المخاطب : أكلت من بستانك من العنب ، أنه لو قال : أكلت من العنب من بستانك يكون الكلام ركيكا بناء على أنّه لمّا قال : أكلت من العنب علم أنّه أكل من البستان ، فقوله : من بستانك يبقى لغوا وأمّا إذا قال أولا : من بستانك أفاد أنّه أكل من البستان بعد أن لم يكن معلوما ، ولكن يبقى الإبهام في المأكول منه ، فلمّا قال : من العنب رفع الإبهام ، هذا وإن لم يكن مثالا لما نحن فيه لكنّه تنظير إذا تأملت فيه تأنّست بالمطلوب الذي نحن بصدده.
لا يقال : فعلى هذا جعله وصفا أيضا لغو ، بناء على أنّ التحدي يدلّ عليه لأنّا