وخطر لي وجه ظننت أنّه أجود من هذه الأقوال. وهو أنّ الكاف اسم كأنّ ، و «لم تكن» الخبر ، و (الدنيا) في موضع الحال من اسم كأن ، والعامل في الحال العامل في صاحبها ، وهو (كأنّ) ، كما عملت في «رطبا ويابسا» من قوله : [الطويل]
٦١٨ ـ كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا |
|
لدى وكرها العنّاب والحشف البالي |
المعنى : كأنّك في حالة كونك في الدّنيا لم تكن ـ أي بها ـ وكأنّك في حالة كونك في الآخرة لم تزل ـ أي بها ـ. وهذا عكس قول ابن عمرون. فإن قلت : يدلّ على صحّة ما قاله من أنّ الجملة «لم تكن» و «لم تزل» حال لا خبر ، أنّه قد روي : «كأنّك بالدّنيا ولم تكن وبالآخرة ولم تزل» والجملة الحاليّة تقترن بالواو ، بخلاف الجملة الخبريّة ، ويقال : «كأنّك بالشمس وقد طلعت» ، قلت : إن سلم ثبوت الرّواية فالواو زائدة ، كما قال الكوفيّون في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) [الحج : ٢٥] : يصدّون هو الخبر ، والواو زائدة. وكما قال أبو الحسن في قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) [هود : ٧٤] : إنّ (وجاءته البشرى) جواب (لمّا) والواو زائدة. وفي قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] ، إنّ (فتحت) جواب (إذا) والواو زائدة ، إلى غير ذلك. وأمّا «كأنّك بالشمس وقد طلعت» فلا نسلّم ثبوته. وهو مشكل على قولي وقوله ، إذ لا يصحّ على قوله أن يكون (بالشمس) خبرا عن اسم كأنّ ، والتقدير : كأنّك مستقرّ بالشمس ، ولا يصحّ على قولي أن تكون «قد طلعت» خبرا عن اسم كأنّ ، لعدم الضّمير. فإذا كان لا يخرّج على قولي ولا على قوله فما وجه إيراده على ما قلته؟ فإن قلت : قد عدلت عمّا قاله من أن الظرف خبر والجملة حال إلى عكس ذلك ، قلت لوجهين :
أحدهما : أنّ على ما قلته يكون الخبر محطّ الفائدة ، وعلى ما قاله : يكون محطّ الفائدة الحال كما تقدّم شرحه ، ولا شكّ أنّ كون الخبر محطّ الفائدة أولى.
والثاني : أنّ العرب قالت : «كأنّك بالشّتاء مقبل وكأنّك بالفرج آت» ، فلفظوا بالمفرد الحالّ محلّ الجملة مرفوعا لا منصوبا.
__________________
٦١٨ ـ الشاهد لامرئ القيس في ديوانه (ص ٣٨) ، وشرح التصريح (١ / ٣٨٢) ، وشرح شواهد المغني (١ / ٣٤٢) ، والصاحبي في فقه اللغة (ص ٢٤٤) ، ولسان العرب (أدب) ، والمقاصد النحوية (٣ / ٢١٦) ، والمنصف (٢ / ١١٧) ، وتاج العروس (بال) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٢ / ٣٢٩) ، ومغني اللبيب (١ / ٢١٨).