ثم أمر خليله بذلك علم أن الأمر للامتحان كما هو شأن الله تعالى فى أنبيائه وأحبائه. فلما مضى الخليل صلوات الله عليه لما أمر به منشرح الخاطر راضيا بما قضاه الله تعالى شكر الله له ذلك وسلم ابنه له من الذبح ببركة التسليم وفدى بالذبح العظيم. وصحت البشرى وتم الموعد فى هذه الآية التى لم يتقدم قبلها قصة ذبح. انتهى.
عدنا إلى المقصود : ولم تزل زمزم كذلك إلى أن دفنتها جرهم حين ظعنوا من مكة بين صنمى قريش إساف ـ بكسر الهمزة ـ ونائلة ، وقيل بل دفنتها السيول ، فاستمرت مدفونة إلى أن نبه عبد المطلب وأمر بحفرها (١). وله منقبتان عظيمتان : إهلاك أصحاب الفيل كما تقدم ، وحفر بئر زمزم.
ذكر ابن إسحاق وغيره أن عبد المطلب بينما هو نائم إذ أتاه آت فقال له : احفر طيبة ، فقال له : وما طيبة؟ فذهب عنه ثم جاءه مرة أخرى فقال له احفر المضنونة فقال له وما المضنونة؟ فذهب عنه ثم جاءه مرة ثالثة فقال له : احفر زمزم ، فقال له عبد المطلب وما زمزم؟ قال لا تنزف أبدا ولا تذمّ (٢) تسقى الحجيج الأعظم وهى بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل (٣).
وفى رواية احفر زمزم ، إنك إن حفرتها لم تندم ، وهى تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبدا ولا تذمّ إلى آخر ما تقدم.
فلما بين له شأنها غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث وليس معه يومئذ غيره فحفرها ، فلما بدا له أعلى البئر كبّر فحسدته بطون قريش وهموا أن يمنعوه وقالوا له : أشركنا معك ، فقال لهم : ما أنا بفاعل شىء خصصت به دونكم ، فاجعلوا بينى وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه فقالوا : كاهنة بنى سعد (٤).
فخرجوا إليها فعطشوا فى الطريق حتى أيقنوا بالهلاك ، فقال عبد المطلب : والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا لعجز فعسى الله أن يرزقنا ماء فارتحلوا بنا (٥).
__________________
(١) شفاء الغرام ج ١ ص ٣٩٨.
(٢) تحرف فى الأصلين إلى : «ولا تزم» وصوابه لدى ابن هشام ، ولا تذم : أى لا توجد قليلة الماء.
(٣) ابن هشام ج ١ ص ١٤٣.
(٤) منائح الكرم ج ١ ص ٤٠٤.
(٥) منائح الكرم ج ١ ص ٤٠٤.