ثلاث عبادات : الخلوة ، والتعبد ، والنظر. ومجموع ذلك أولى من الاقتصار على البعض. وغيره من الأماكن ليس فيه ذلك المعنى ، وأيضا أن هذا الجبل كان يختلى فيه أجدادهصلىاللهعليهوسلم.
أقول : وفيما ذكر نظر ، لأن غيره من الجبال يتأتى فيه ما ذكر من اجتماع العبادات الثلاث كأبى قبيس مثلا ويزيد بقربه من البيت فكان أولى أن يتعبد فيه. وإن كان المراد البعد من الناس لخلو البال فى التعبد ، فالجبال البعيدة كثيرة ، اللهم إلا أن يقال إن الغار الذى بحراء مستقبل الكعبة من غير انحراف ، وليس غيره كذلك فله وجه ، والأحسن أن يقال : إن جبل حراء متعبد أجداده فاقتدى بهم فى ذلك ، والله الموفق.
ومنها : جبل ثور ـ بالثاء المثلثة ـ بأسفل مكة ، وسماه البكرى أبا ثور والمشهور الأول ، وبعده عن مكة ميلان. وقيل ثلاثة ، وارتفاعه نحو ميل. وكان اسمه أطحل ـ بالطاء والحاء المهملتين ـ وإنما سمى ثورا لنزول ثور بن عبد مناف فيه ، وقد صح أن النبىصلىاللهعليهوسلم وأبا بكر اختفيا فى غاره المشهور الذى ذكره الله تعالى بقوله : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) الآية (سورة التوبة : ٤٠).
وروى أن النبى صلىاللهعليهوسلم لما دخل الغار أمر الله العنكبوت فنسجت على بابه وشجرة فنبتت والحمامتين فعششتا على بابه ، ويقال إن هذا الحمام الذى بمكة من نسلهما.
ومن فضائل هذا الجبل ما يروى أنه كلم النبى صلىاللهعليهوسلم ، وقال له : إلىّ يا رسول الله ، فإنى قد آويت قبلك سبعين نبيا.
وللغار الذى فيه بابان واسع وضيق ، وكثير من الناس يتجنب دخوله من الباب الضيق لما يقال إن من لم يدخل منه وتعوق فليس لأبيه ، وهو باطل لا أصل له.
وقد وسع الباب الضيق فى حدود عام ثمانمائة لأن بعض الناس أراد الدخول منه فانحبس ، فنحت منه حتى اتسع وتخلص.
وكان مكثه صلىاللهعليهوسلم فى الغار المذكور ثلاثا كما فى «صحيح البخارى» وهو الراجح ، وقيل بضعة عشر يوما ، ووفق الجد رحمهالله بينهما فقال : ويحتمل أن يكون كلا القولين صحيحا ، ووجه الجمع أنهما مكثا فى الغار ثلاثا ، ويكون معنى الحديث مكثت مع صاحبى مختفيين من المشركين فى الغار وفى الطريق بضعة عشر يوما ، انتهى.