وعاد إلى الأندلس ، فنال من الرياسة والحرمة ما لم ينله غيره ، وعادت الفتيا إليه وانتهى السلطان والعامّة إلى بابه ، فلم يقلد في سائر أعمال الأندلس قاض إلّا بإشارته واعتنائه ، فصاروا على رأي مالك بعد ما كانوا على رأي الأوزاعيّ ، وقد كان مذهب الإمام مالك أدخله إلى الأندلس زياد بن عبد الرحمن الذي يقال له بسطور ، قبل يحيى بن يحيى ، وهو أوّل من أدخل مذهب مالك الأندلس ، وكانت إفريقية الغالب عليها السنن والآثار إلى أن قدم عبد الله بن فروج أبو محمد الفارسيّ بمذهب أبي حنيفة ، ثم غلب أسد بن الفرات بن سنان قاضي افريقية بمذهب أبي حنيفة ، ثم لما ولي سحنون بن سعيد التنوخيّ قضاء افريقية ، بعد ذلك نشر فيهم مذهب مالك وصار القضاء في أصحاب سحنون دولا يتصاولون على الدنيا تصاول الفحول على الشول إلى أن تولى القضاء بها بنو هاشم ، وكانوا مالكية ، فتوارثوا القضاء كما تتوارث الضياع.
ثم إن المعز بن باديس حمل جميع أهل إفريقية على التمسك بمذهب مالك وترك ما عداه من المذاهب ، فرجع أهل إفريقية وأهل الأندلس كلهم إلى مذهب مالك إلى اليوم ، رغبة فيما عند السلطان ، وحرصا على طلب الدنيا ، إذ كان القضاء والافتاء جميع تلك المدن وسائر القرى لا يكون إلّا لمن تسمى بالفقه على مذهب مالك ، فاضطرّت العامّة إلى أحكامهم وفتاواهم ، ففشا هذا المذهب هناك فشوّا طبق تلك الأقطار ، كما فشا مذهب أبي حنيفة ببلاد المشرق ، حيث أن أبا حامد الاسفراينيّ لما تمكن من الدولة في أيام الخليفة القادر بالله أبي العباس أحمد ، قرّر معه استخلاف أبي العباس أحمد بن محمد البارزيّ الشافعيّ عن أبي محمد بن الأكفانيّ الحنفيّ قاضي بغداد ، فأجيب إليه بغير رضى الأكفانيّ وكتب أبو حامد إلى السلطان محمود بن سبكتكين وأهل خراسان أن الخليفة نقل القضاء عن الحنفية إلى الشافعية ، فاشتهر ذلك بخراسان وصار أهل بغداد حزبين ، وقدم بعد ذلك أبو العلاء صاعد بن محمد قاضي نيسابور ورئيس الحنفية بخراسان ، فأتاه الحنفية فثارت بينهم وبين أصحاب أبي حامد فتنة ارتفع أمرها إلى السلطان ، فجمع الخليفة القادر الأشراف والقضاة وأخرج إليهم رسالة تتضمن : أن الاسفراينيّ أدخل على أمير المؤمنين مداخل أوهمه فيها النصح والشفقة والأمانة ، وكانت على أصول الدخل والخيانة ، فلما تبين له أمره ووضح عنده خبث اعتقاده فيما سأل فيه من تقليد البارزيّ الحكم بالحضرة من الفساد والفتنة والعدول بأمير المؤمنين عما كان عليه أسلافه من إيثار الحنفية وتقليدهم واستعمالهم ، صرف البارزيّ وأعاد الأمر إلى حقه وأجراه على قديم رسمه ، وحمل الحنفيين على ما كانوا عليه من العناية والكرامة والحرمة والإعزاز ، وتقدّم إليهم بأن لا يلقوا أبا حامد ولا يقضوا له حقا ولا يردّوا عليه سلاما ، وحلع على أبي محمد الأكفانيّ ، وانقطع أبو حامد عن دار الخلافة ، وظهر التسخط عليه والانحراف عنه وذلك في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة واتصل ببلاد الشام ومصر.