في ناحية البشرود حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين ، فحكم بقتل الرجال وبيع النساء والأطفال ، فبيعوا وسبي أكثرهم ، وتتبع كلّ من يومأ إليه بخلاف ، فقتل ناسا كثيرا ، ورجع إلى الفسطاط في صفر ، ومضى إلى حلوان ، وعاد لثمان عشرة خلت من صفر فكان مقامه بالفسطاط وسخا وحلوان تسعة وأربعين يوما. فانظر أعزك الله كيف كانت إقامة الصحابة ، إنما هي بالفسطاط والإسكندرية ، وأنه لم يكن لهم كثير إقامة بالقرى ، وأن النصارى كانوا متمكنين من القرى ، والمسلمون بها قليل ، وأنهم لم ينتشروا بالنواحي إلا بعد عصر الصحابة والتابعين ، يتبين لك أنهم لم يؤسسوا في القرى والنواحي مساجد ، وتفطن لشيء آخر ، وهو أن القبط ما برحوا كما تقدّم يثبتون لمحاربة المسلمين ، دالة منهم بما هم عليه من القوة والكثرة ، فلما أوقع بهم المأمون الوقعة التي قلنا غلب المسلمون على أماكنهم من القرى لما قتلوا منهم وسبوا ، وجعلوا عدّة من كنائس النصارى مساجد ، وكنائس النصارى مؤسسة على استقبال المشرق واستدبار المغرب ، زعما منهم أنهم أمروا باستقبال مشرق الاعتدال ، وأنه الجنة ، لطلوع الشمس منه ، فجعل المسلمون أبواب الكنائس محاريب عند ما غلبوا عليها. وصيروها مساجد ، فجاءت موازية لخط نصف النهار ، وصارت منحرفة عن محاربي الصحابة انحرافا كثيرا يحكم بخطئها وبعدها عن الصواب كما تقدّم.
السبب الثالث : تساهل كثير من الناس في معرفة أدلة القبلة ، حتى أنك لتجد كثيرا من الفقهاء لا يعرفون منازل القمر صورة وحسابا ، وقد علم من له ممارسة بالرياضيات أن بمنازل القمر يعرف وقت الحسر وانتقال الفجر في المنازل ، وناهيك بما يترتب على معرفة ذلك من أحكام الصلاة والصيام ، وهذه المنازل التي للقمر من بعض ما يستدل به على القبلة ، والطرقات ، وهي من مبادي العلم ، وقد جهلوه ، فمن أعوزه الأدنى فحريّ به أن يجهل ما هو أعلى منه وأدق.
السبب الرابع : الاعتذار بنجم سهيل ، فإن كثيرا ما يقع الاعتذار عن مخالفة محاريب المتأخرين بأنها بنيت على مقابلة سهيل ، ومن هناك يقع الخطأ ، فإن هذا أمر يحتاج فيه إلى تحرير ، وهو أن دائرة سهيل مطلعها جنوب مشرق الشتاء قليلا ، وتوسطها في أوسط الجنوب ، وغروبها يميل عن أوسط الجنوب قليلا ، فلعل من تقدّم من السلف أمر ببناء المساجد في القرى على مقابلة مطالع سهيل ، ومطلعه في سمت قبلة مصر تقريبا ، فجهل من قام بأمر البنيان فرق ما بين مطالع سهيل وتوسطه وغروبه ، وتساهل فوضع المحراب على مقابلة توسط سهيل ، وهو أوسط الجنوب ، فجاء المحراب حينئذ منحرفا عن السمت الصحيح انحرافا لا يسوغ التوجه إليه البتة.
السبب الخامس : أن المحاريب الفاسدة بديار مصر أكثرها في البلاد الشمالية التي تعرف بالوجه البحريّ ، والذي يظهر أن الغلط دخل على من وضعها من جهة ظنه أن هذه