فرعون كثيرا من أمره وجعله من قوّاده ، وكانت له سطوة ، ثم وجهه لغزو اليونانيين وقد عاثوا في أطراف مصر ، فخرج في جيش كثيف وأوقع بهم فأظفره الله وقتل منهم كثيرا وأسر كثيرا وعاد غانما ، فسرّ ذلك فرعون وأعجب به هو وامرأته ، واستولى موسى وهو غلام على كثير من أمر فرعون ، فأراد فرعون أن يستخلفه ، حتى قتل رجلا من أشراف القبط له قرابة من فرعون فطلبه ، وذلك أنه خرج يوما يمشي في الناس وله صولة بما كان له في بيت فرعون من المربى والرضاع ، فرأى عبرانيا يضرب ، فقتل المصريّ الذي ضربه ودفنه ، وخرج يوما آخر فإذا برجلين من بني إسرائيل وقد سطا أحدهما على الآخر ، فزجره. فقال له : ومن جعل لك هذا ، أتريد أن تقتلني كما قتلت المصريّ بالأمس ، ونما الخبر إلى فرعون فطلبه ، وألقى الله في نفسه الخوف لما يريد من كرامته ، فخرج من منف ولحق بمدين عند عقبة أيلة ، وبنو مدين أمّة عظيمة من بني إبراهيم عليهالسلام ، كانوا ساكنين هناك ، وكان فراره وله من العمر أربعون سنة ، فنزل عند بيرون ، وهو شعيب عليهالسلام من ولد مدين بن إبراهيم ، وكان من تزويجه ابنته ورعايته غنمه ما كان ، فأقام هنالك تسعا وثلاثين سنة نكح فيها صفوراء ابنة شعيب ، وبنوا إسرائيل مع فرعون وأهل مصر كما قال تعالى : («يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) ويستعبدونهم» (١).
فلما مضى من سنة الثمانين لموسى شهر وأسبوع ، كلمه الله جلّ اسمه ، وكان ذلك في اليوم الخامس عشر من شهر نيسان ، وأمره أن يذهب إلى فرعون ، وشدّ عضده بأخيه هارون وأيده بآيات منها قلب العصا حية وبياض يده من غير سوء وغير ذلك من الآيات العشر التي أحلها الله بفرعون وقومه ، وكان مجيء الوحي من الله تعالى إليه وهو ابن ثمانين سنة ، ثم قدم مصر في شهر أيار ولقي أخاه هارون ، فسرّ به وأطعمه جلبانا فيه ثريد ، وتنبأ هارون وهو ابن ثلاث وثمانين سنة ، وغدا به إلى فرعون وقد أوحي إليهما أن يأتيا إلى فرعون ليبعث معهما بني إسرائيل فيستنقذ أنهم من هلكة القبط وجور الفراعنة ، ويخرجون إلى الأرض المقدّسة التي وعدهم الله بملكها على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فأبلغا ذلك بني إسرائيل عن الله ، فأمنوا بموسى واتبعوه ، ثح حضرا إلى فرعون فأقاما ببابه أياما وعلى كل منهما جبة صوف ، ومع موسى عصاه ، وهما لا يصلان إلى فرعون لشدّة حجابه ، حتى دخل عليه مضحك كان يلهو به فعرّفه أن بالباب رجلين يطلبان الاذن عليك ، بزعمان أن إلههما قد أرسلهما إليك ، فأمر بإدخالهما. فلما دخلا عليه خاطبه موسى بما قصه الله في كتابه ، وأراه آية العصا وآيته في بياض اليد ، فغاظ فرعون ما قاله موسى وهمّ بقتله ، فمنعه الله سبحانه بأن رأى صورة قد أقبلت ومسحت على أعينهم فعموا ، ثم أنه لما فتح عن عينيه أمر قوما آخرين بقتل موسى فأتتهم نار أحرقتهم ، فازداد غيظه وقال لموسى : من أين ذلك هذه النواميس
__________________
(١) مأخوذة من الآية ٤٩ من سورة البقرة.