عمرو وجلس على كرسيّ بطركيته بعد ما غاب عنه ثلاث عشرة سنة ، منها في ملك فارس لمصر عشر سنين ، وباقيها بعد قدوم هرقل إلى مصر ، فغلبت اليعاقبة على كنائس مصر ودياراتها كلها ، وانفردوا بها دون الملكية ، ويذكر علماء الأخبار من النصارى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضياللهعنه ، لما فتح مدينة القدس كتب للنصارى أمانا على أنفسهم وأولادهم ونسائهم وأموالهم وجميع كنائسهم لا تهدم ولا تسكن ، وأنه جلس في وسط صحن كنيسة القمامة ، فلما حان وقت الصلاة خرج وصلّى خارج الكنيسة على الدرجة التي على بابها بمفرده ، ثم جلس وقال للبطرك : لو صليت داخل الكنيسة لأخذها المسلمون من بعدي ، وقالوا ههنا صلّى عمر ، وكتب كتابا يتضمن أنه لا يصلي أحد من المسلمين على الدرجة إلّا واحد واحد ، ولا يجتمع المسلمون بها للصلاة فيها ، ولا يؤذنون عليها ، وأنه أشار عليه البطرك باتخاذ موضع الصخرة مسجدا ، وكان فوقها تراب كثير ، فتناول عمر رضياللهعنه من التراب في ثوبه ، فبادر المسلمون لرفعه حتى لم يبق منه شيء ، وعمر المسجد الأقصى أمام الصخرة ، فلما كانت أيام عبد الملك بن مروان أدخل الصخرة في حرم الأقصى ، وذلك سنة خمس وستين من الهجرة ، ثم إن عمر رضياللهعنه أتى بيت لحم وصلّى في كنيسته عند الخشبة التي ولد فيها المسيح ، وكتب سجلا بأيدي النصارى أن لا يصلي في هذا الموضع أحد من المسلمين إلّا رجل بعد رجل ، ولا يجتمعوا فيه للصلاة ، ولا يؤذنوا عليه ، ولما مات البطرك بنيامين في سنة تسع وثلاثين من الهجرة بالإسكندرية في إمارة عمرو الثانية ، قدّم اليعاقبة بعده أغانو فأقام سبع عشرة سنة ومات سنة ست وخمسين ، وهو الذي بنى كنيسة مرقص بالإسكندرية ، فلم تزل إلى أن هدمت في سلطنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، وكان في أيامه الغلاء مدّة ثلاث سنين ، وكان يهتم بالضعفاء ، فأقيم بعده إيساك وكان يعقوبيا ، فأقام سنتين وأحد عشر شهرا ومات ، فقدّم اليعاقبة بعده سيمون السريانيّ ، فأقام سبع سنين ونصفا ومات ، وفي أيامه قدم رسول أهل الهند في طلب أسقف يقيمه لهم ، فامتنع من ذلك حتى يأذن له السلطان ، وأقام غيره وخلا بعد موته كرسي الإسكندرية ثلاث سنين بغير بطرك ، ثم قدّم اليعاقبة في سنة إحدى وثمانين الإسكندروس ، فقام أربعا وعشرين سنة ونصفا ، وقيل خمسا وعشرين سنة ومات سنة ست ومائة ، ومرّت به شدائد صودر فيها مرّتين ، أخذ منه فيهما ستة آلاف دينار ، وفي أيامه أمّر عبد العزيز بن مروان ، فأمر بإحصاء الرهبان فأحصوا وأخذت منهم الجزية عن كلّ راهب دينار ، وهي أوّل جزية أخذت من الرهبان.
ولما ولي مصر عبد الله بن عبد الملك بن مروان اشتدّ على النصارى ، واقتدى به قرّة بن شريك أيضا في ولايته على مصر ، وأنزل بالنصارى شدائد لم يبتلوا قبلها بمثلها ، وكان عبد الله بن الحبحاب متولي الخراج قد زاد على القبط قيراطا في كلّ دينار ، فانتقض عليه عامّة الحوف الشرقيّ من القبط ، فحاربهم المسلمون وقتلوا منهم عدّة وافرة في سنة