سابع عشر شهر رمضان سنة أربعين وستمائة ، ودفن بدير الشمع بالجيزة ، وكان عالما بدينه محبا للرياسة ، وأخذ الشرطونية في بطركيته ، وكانت الديارات بأرض مصر قد خلت من الأساقفة ، فقدم جماعة أساقفة كثيرة بمال كثير أخذه منهم وقاسى شدائد ، ورافعه الراهب عماد المرشال ووكل عليه وعلى أقاربه وألزامه ، وساعده الراهب السني بن الثعبان ، وأشاع مثالبه وقال لا يصح له كونية لأنه يقدّم بالرشوة ، وأخذ الشرطونية وجمع عليه طائفة كثيرة ، وعقد مجلسا عند الصاحب معين الدين حسن بن شيخ الشيوخ في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب ، وأثبت على البطرك قوادح ، فقام الكتاب النصارى في أمره مع الصاحب بمال يحمله إلى السلطان حتى استمر على بطركيته ، وخلا كرسيّ البطاركة بعده سبع سنين وستة أشهر وستة وعشرين يوما.
ثم قدّم اليعاقبة ابناسيوس ابن القس أبي المكارم بن كليل بالمعلقة في يوم الأحد رابع شهر رجب سنة ثمان وأربعين وستمائة ، وكمل بالإسكندرية ، فأقام إحدى عشرة سنة وخمسة وخمسين يوما ، ومات يوم الأحد ثالث المحرّم سنة ستين وستمائة ، فخلت مصر من البطركية خمسة وثمانين يوما. وفي أيامه أخذ الوزير الأسعد شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي الجوالي من النصارى مضاعفة ، وفي أيامه ثارت عوامّ دمشق وخربت كنيسة مريم بدمشق بعد إحراقها ونهب ما فيها ، وقتل جماعة من النصارى بدمشق ، ونهب دورهم ، وخرابها في سنة ثمان وخمسين وستمائة بعد وقعة عين جالوت وهزيمة المغل. فلما دخل السلطان الملك المظفر قطز إلى دمشق قرّر على النصارى بها مائة ألف وخمسين ألف درهم ، جمعوها من بينهم وحملوها إليه بسفارة الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب ، أتابك العسكر.
وفي سنة اثنتين وثمانين وستمائة كانت واقعة النصارى ، ومن خبرها أن الأمير سنجر الشجاعيّ كانت حرمته وافرة في أيام الملك المنصور قلاون ، فكان النصارى يركبون الحمير بزنانير في أوساطهم ، ولا يجسر نصرانيّ يحدّث مسلما وهو راكب ، وإذا مشى فبذلة ، ولا يقدر أحد منهم يلبس ثوبا مصقولا ، فلما مات الملك المنصور وتسلطن من بعده ابنه الملك الأشرف خليل ، خدم الكتاب النصارى عند الأمراء الخاصكية وقوّوا نفوسهم على المسلمين ، وترفعوا في ملابسهم وهيآتهم ، وكان منهم كاتب عند خاصكيّ يعرف بعين الغزال ، فصدف يوما في طريق مصر سمسار شونة مخدومه ، فنزل السمسار عن دابته وقبّل رجل الكاتب ، فأخذ يسبه ويهدّده على مال قد تأخر عليه من ثمن غلة الأمير ، وهو يترفق له ويعتذر ، فلا يزيده ذلك عليه إلّا غلظة ، وأمر غلامه فنزل وكتف السمسار ومضى به والناس تجتمع عليه حتى صار إلى صليبة جامع أحمد بن طولون ، ومعه عالم كبير ، وما منهم إلّا من يسأله أن يخلي عن السمسار وهو يمتنع عليهم ، فتكاثروا عليه وألقوه عن حماره وأطلقوا السمسار ، وكان قد قرب من بيت أستاذه ، فبعث غلامه لينجده بمن فيه ، فأتاه بطائفة من