مصر بمثل ذلك ، وكتب إلى أمراء أجناد الشام أن لا يتبدّدوا إلى القرى ، وأن ينزلوا المدائن ، وأن يتخذوا في كلّ مدينة مسجدا واحدا ، ولا تتخذ القبائل مساجد ، فكان الناس متمسكين بأمر عمر وعهده.
وقال أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب بن حفص الكنديّ ، في كتاب أخبار مسجد أهل الراية الأعظم : وأوّل أمره وبنائه وزيادة الأمراء فيه وغيرهم ، ومجالس الحكام والفقهاء منه وغير ذلك ، قال هبيرة بن أبيض عن شيخه تجيب : أن قيسبة بن كلثوم التجيبيّ أحد بني سوم ، سار من الشام إلى مصر مع عمرو بن العاص ، فدخلها في مائة راحلة وخمسين عبدا وثلاثين فرسا ، فلما أجمع المسلمون وعمرو بن العاص على حصار الحصن ، نظر قيسبة بن كلثوم فرأى جنانا تقرب من الحصن ، فعرّج إليها في أهله وعبيده ، فنزل وضرب فيها فسطاطه وأقام فيها طول حصارهم الحصن حتى فتحه الله عليهم ثم خرج قيسبة مع عمرو إلى الإسكندرية وخلف أهله فيها ، ثم فتح الله عليهم الإسكندرية ، وعاد قيسبة إلى منزله هذا فنزله ، واختط عمرو بن العاص داره مقابل تلك الجنان التي نزلها قيسبة ، وتشاور المسلمون أين يكون المسجد الجامع ، فرأوا أن يكون منزل قيسبة ، فسأله عمرو فيه وقال : أنا أختط لك يا أبا عبد الرحمن حيث أحببت. فقال قيسبة : لقد علمتم يا معاشر المسلمين أني حزت هذا المنزل وملكته ، وإني أتصدّق به على المسلمين وارتحل ، فنزل مع قومه بني سوم واختط فيهم ، فبني مسجدا في سنة إحدى وعشرين من الهجرة ، وفي ذلك يقول أبو قبان بن نعيم بن بدر التجيبي :
وبابليون (١) قد سعدنا بفتحها |
|
وحزنا لعمر الله فيأ ومغنما |
وقيسبة الخير بن كلثوم داره |
|
أباح حماها للصلاة وسلّما |
فكلّ مصلّ في فنانا صلاته |
|
تعارف أهل المصر ما قلت فاعلما |
وقال أبو مصعب قيس بن سلمة الشاعر في قصيدته التي امتدح فيها عبد الرحمن بن قيسبة:
وأبوك سلّم داره وأباحها |
|
لجباه قوم ركّع وسجود |
وقال الليث بن سعد : كان مسجدنا هذا حدائق وأعنابا. وقال الشريف محمد بن أسعد الجوانيّ : ومن جملة مزارعها جامع مصر ، وقد بقي إلى الآن من جملة الأنشاب التي كانت في البستان في موضع الجامع ، شجرة زنزلخت ، وهي باقية إلى الآن خلف المحراب الكبير والحائط الذي به المنبر ، ومن العلماء من قال : إنّ هذه الشجرة باقية من عهد موسى عليهالسلام ، وكان لها نظير شجرة أخرى في الورّاقين ، احترقت في حريق مصر سنة أربع وستين وخمسمائة ، وظهر بالجامع العتيق بئر البستان التي كانت به ، وهي اليوم يستقي منها الناس الماء بموضع حلة الفقيه ابن الجيزيّ المالكيّ.
__________________
(١) بابليون : هو حصن بابليون في القاهرة.