تدبير الأمور والمملكة ، فتظاهرا معا على إتلاف الأوقاف ، فكان جمال الدين إذا أراد أخذ وقف من الأوقاف ، أقام شاهدين يشهدان بأن هذا المكان يضرّ بالجار والمارّ ، وأن الحظ فيه أن يستبدل به غيره ، فيحكم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم باستبدال ذلك ، وشره جمال الدين في هذا الفعل كما شره في غيره ، فحكم له المذكور باستبدال القصور العامرة ، والدور الجليلة بهذه الطريقة ، والناس على دين ملكهم ، فصار كلّ من يريد بيع وقف أو شراء وقف سعى عند القاضي المذكور بجاه أو مال ، فيحكم له بما يريد من ذلك ، واستدرج غيره من القضاة إلى نوع آخر ، وهو أن تقام شهود القيمة فيشهدون بأن هذا الوقف ضارّ بالجار والمار ، وأن الحظ والمصلحة في بيعه أنقاضا ، فيحكم قاض شافعيّ المذهب ببيع تلك الأنقاض. واستمرّ الأمر على هذا إلى وقتنا هذا الذي نحن فيه ، ثم زاد بعض سفهاء قضاة زمننا في المعنى وحكم ببيع المساجد الجامعة إذا خرب ما حولها ، وأخذ ذرية واقفها ثمن أنقاضها ، وحكم آخر منهم ببيع الوقف ودفع الثمن لمستحقه من غير شراء بدل ، فامتدّت الأيدي لبيع الأوقاف حتى تلف بذلك سائر ما كان في قرافتي مصر من الترب ، وجميع ما كان من الدور الجليلة ، والمساكن الأنيقة ، بمصر الفسطاط ومنشأة المهرانيّ ومنشأة الكتاب وزريبة قوصون وحكر ابن الأثير وسويقة الموفق ، وما كان في الحكورة من ذلك ، وما كان بالجوّانية والعطوفية وغيرها من حارات القاهرة وغيرها ، فكان ما ذكر أحد أسباب الخراب ، كما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب.
الجهة الثالثة : الأوقاف الأهلية ، وهي التي لها ناظر خاص ، إمّا من أولاد الواقف أو من ولاة السلطان أو القاضي ، وفي هذه الجهة الخوانك والمدارس والجوامع والترب ، وكان متحصلها قد خرج عن الحدّ في الكثرة لما حدث في الدولة التركية من بناء المدارس والجوامع والترب وغيرهما ، وصاروا يفردون أراضي من أعمال مصر والشامات ، وفيها بلاد مقرّرة ، ويقيمون صورة يتملكونها بها ويجعلونها وقفا على مصارف كما يريدون ، فلما استبدّ الأمير برقوق بأمر بلاد مصر قبل أن يتلقب باسم السلطنة ، همّ بارتجاع هذه البلاد وعقد مجلسا فيه شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ ، وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء ، وغيره. فلم يتهيأ له ذلك ، فلما جلس على تخت الملك صار أمراؤه يستأجرون هذه النواحي من جهات الأوقاف ، ويؤجرونها للفلاحين بأزيد مما استأجروا ، فلما مات الظاهر فحش الأمر في ذلك واستولى أهل الدولة على جميع الأراضي الموقوفة بمصر والشامات ، وصار أجودهم من يدفع فيها لمن يستحق ريعها عشر ما يحصل له ، وإلّا فكثير منهم لا يدفع شيئا البتة ، لا سيما ما كان من ذلك في بلاد الشام ، فإنه استهلك وأخذ ، ولذلك كان أسوأ الناس حالا في هذه المحن التي حدثت منذ سنة ست وثمانمائة الفقهاء ، لخراب الموقوف عليها وبيعه واستيلاء أهل الدولة على الأراضي.