وذكر الزمخشري توجيها آخر في تأخير الركوع عن السجود ، فقال : ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع ، وفيه من يركع ، فأمرت بأن تركع مع الراكعين ، ولا تكون مع من لا يركع. انتهى. فكأنه قيل : لا تقتصري على القيام والسجود ، بل أضيفي إلى ذلك الركوع.
وقيل : المراد : باقنتي : أطيعي ، وباسجدي : صلي ، ومنه (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) (١) أي : الصلوات ، و : باركعي : أشكري مع الشاكرين ، ومنه : (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) (٢) ويقوي هذا المعنى ، ويرد على من زعم أنه لم تشرع صلاة إلّا والركوع فيها مقدّم على السجود ، فإن المشاهد من صلاة اليهود والنصارى خلوّها من الركوع ، ويبعد أن يراد بالركوع الانحناء الذي يتوصل منه إلى السجود ، ويحتمل أن يكون ترك الركوع مما غيرته اليهود والنصارى من معالم شريعتهم.
و : مع ، في قوله : مع الراكعين ، تقتضي الصحبة والاجتماع في إيقاع الركوع مع من يركع ، فتكون مأمورة بالصلاة في جماعة ، ويحتمل أن يتجوز في : مع ، فتكون للموافقة للفعل فقط دون اجتماع ، أي : افعلي كفعلهم ، وإن لم توقعي الصلاة معهم ، فإنها كانت تصلي في محرابها. وجاء : مع الراكعين ، دون الراكعات لأن هذا الجمع أعم إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب ، ولمناسبة أواخر الآيات قبل وبعد ، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا إنها مأمورة بصلاة الجماعة.
قال الماتريدي : ولم تكره لها الصلاة في الجماعة ، وإن كانت شابة ، لأنهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم ، ولذلك اختصوا في ضمها وإمساكها. انتهى.
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) الإشارة إلى ما تقدّم من قصص امرأة عمران ، وبنتها مريم ، وزكريا ، ويحيى ، والمعنى : أن هذه القصص وصولها إليك من جهة الوحي إذ لست ممن دارس الكتب ، ولا صحب من يعرف ذلك ، وهو من قوم أمّيين ، فمدرك ذلك إنما هو الوحي من عند الله كما قال في الآية الأخرى ، وقد ذكر قصة أبعد الناس زمانا من زمانه ، صلىاللهعليهوسلم ، وهو نوح عليهالسلام ، واستوفاها له في سورة هود أكثر مما استوفاها في غيرها (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) (٣) وفي هذا دليل على نبوّة رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ أخبر بغيوب لم يطلع عليها إلّا من
__________________
(١) سورة ق : ٥٠ / ٤٠.
(٢) سورة ص : ٣٨ / ٢٤.
(٣) سورة هود : ١١ / ٤٩.