ومدرك القسمين إنما يعرف بسياق الكلام الذي النفي فيه ، وهذه الآية من القسم الأول ، لأنا نعلم أن الله لا يعطي الكذبة والمدّعين النبوّة ، وفي هذه الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهمالسلام.
والكتاب : هنا اسم جنس ، والحكم : قيل بمعنى الحكمة ، ومنه : «إن من الشعر لحكما». وقيل : الحكم هنا السنة ، يعنون لمقابلته الكتاب ، والظاهر أن الحكم هنا القضاء والفصل بين الناس ، وهذا من باب الترقي ، بدأ أولا بالكتاب وهو العلم ، ثم ترقى إلى التمكين وهو الفصل بين الناس ثم ترقى إلى الرتبة العليا وهي النبوّة وهي مجمع الخير.
ثم يقول للناس : أتى بلفظ : ثم ، التي هي للمهلة تعظيما لهذا القول ، وإذا انتفى هذا القول بعد المهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى ، أي : إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول ، وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام العظيم.
(كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) عبادا جمع عبد. قال ابن عطية : ومن جموعه : عبيد وعبدّى. قال بعض اللغويين : هذه الجموع كلها بمعنى. وقال قوم : العباد لله والعبيد للبشر. وقال قوم : العبدى إنما يقال في العبيد بني العبيد ، كأنه مبالغة تقتضي الاستغراق في العبودية.
والذي استقرئت في لفظة : العباد ، أنه جمع عبد ، متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن فانظر قوله تعالى : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (١) و (عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٢) و (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) (٣) وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) (٤).
وأما : العبيد ، فيستعمل في التحقير ، ومنه قول امرئ القيس :
قولا لدودان عبيد العصا |
|
ما غركم بالأسد الباسل |
ومنه قول حمزة بن عبد المطلب : وهل أنتم إلّا عبيد لأبي ، ومنه (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٥) لأنه مكان تشقيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلام لهم
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٠٧ وآل عمران : ٣ / ٣٠.
(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٦.
(٣) سورة الزمر : ٣٩ / ١٠.
(٤) سورة المائدة : ٥ / ١١٨.
(٥) سورة فصلت : ٤١ / ٤٦.